عبيدلي العبيدلي
أثارت قرارات الرئيس الأمريكي رونالد ترامب بحظر دخول مواطني مجموعة من الدول العربية، التي وضعتها الولايات المتحدة في "خانة البلاد الإرهابية"؛ مجموعة من ردود الفعل الغاضبة داخل الولايات المتحدة ذاتها، قبل سواها من دول العالم الأخرى، بما فيها تلك الدول التي شملت مواطنيها لائحة المنع.
تراوحت ردود الفعل تلك بين الاستغراب، والاستهجان، واتخاذ الإجراءات، فشاهدنا العديد من المظاهرات التي اجتاحت مدن الولايات المتحدة الكبرى من بينها واشنطن ونيويورك. لكنها جميعا خلت، إلى حد بعيد، من اعتبار ما قام به ترامب تجسيدا صحيحا للعنصرية الأمريكية التي سادت سياسات الولايات المتحدة، سواء بشكل علني فاضح وصريح كما نلمسه في قرارات ترامب الأخيرة، أو مبطن ومزيّف كما رأيناه في حقبة براك أوباما خلال السنوات الثماني الماضية.
فجوهر سياسات واشنطن الخارجية، وهي التي تعبر عن الوجه الأمريكي الحقيقي، مهما كانت الرداء الذي تتستر به، يرتكز على أنانية مطلقة تدافع بشكل لا يقبل المساومة عن المصالح الآنية المباشرة للولايات المتحدة، بغض النظر عن الثمن الذي تدفعه شعوب الدول الأخرى، بما فيها تلك المحاذية للولايات المتحدة مثل المكسيك، والدومنيكان، أو عواصم الدول التي تندرج في قائمة حلفاء الولايات المتحدة، مثل بعض الدول العربية التي وردت أسماءها في لائحة الحظر تلك. ويمكن تلخيص ذلك الجوهر في النقاط التالية:
- هامش ضيق المساحة تسمح به الشركات الأمريكية العملاقة التي تسيطر على الاقتصاد الأمريكي، لمناورات الرئيس الأمريكي المنتخب، الذي تتحكم هي الأخرى، وبنسبة عالية، في موازين تفوقه الانتخابي على منافسيه. ومن ثم فهي لا تكتفي بالتحكم في آليات تسيير عمليات الانتخابات الرئاسية فحسب، بل تتجاوز ذلك كي تضمن استمرار نفوذها في صياغة السياسات التي تخرج من أروقة البيت الأبيض في مراحل لاحقة. ذلك الهامش الضيق المتاح، هو الرتوش المؤقتة التي تتستر وراءها الاستراتيجيات الأمريكية غير القابلة حتى لمجرد النقاش، دع عنك الوصول إلى مستوى المساومة. هذا يفسر العديد من المواقف المؤقتة الآنية التي تبدو فيها سياسات واشنطن خارجة عن الخط الاستراتيجي المعتاد التي ترسم معالمه بدقة متناهية تلك الاحتكارات.
- ضمان خضوع الاقتصاد العالمي لسيطرة الاقتصاد الأمريكي، بغض النظر عن الثمن الباهظ الذي يمكن أن يدفعه الآخرون، طالما يضمن ذلك الوصول إلى تحقيق ذلك الهدف المغرق في أنانيته. ولو تابعنا السوق النفطية فقط لوجدنا الأصابع الأمريكية واضحة وراء تقلبات أسعارها. ولا يهم واشنطن التضحية بأقرب حلفائها في حال رفضه الانصياع لتلك السياسات. ولعل في الإطاحة بنظام شاه إيران، أقرب الحلفاء لأمريكا في الشرق الأوسط، في السبعينيات من القرن الماضي أقوى دليل على صحة ما نذهب إليه، دون التقليل من دور الشعب الإيراني في تلك العملية. والأمر ذاته تكرر عندما "نحرت" واشنطن، في ثمانينيات القرن الماضي أيضا، ما كان يعرف بـ "النمور الآسيوية"، عندما "تطاولت" أربع دول آسيوية/ من بينها دول صغيرة مثل ماليزيا، على الاقتصاد الأمريكي، و"توهمت" أن في وسعها تجاوز المساحة المتاحة لها، فذهبت ضحية رخيصة على مذبح الدفاع عن الاقتصاد الأمريكي المغرق في أنانيته.
- عدم المساومة في المساس بما تعتبره واشنطن وتل أبيب خطا أحمر بشأن الأمن القومي الاستراتيجي للكيان الصهيوني. وهنا لا بد من الحذير لمن ينساق وراء بعض المساحيق التي تحاول أن تخفي تلك السياسة الاستراتيجية التي تستخدمها واشنطن، بشكل ماهر، لترضي هذا الطرف العربي أو ذاك، أو لتسهم في تمرير صفقة سلاح يحصل عليها ذلك الكيان. ولو عدنا لبعض المساعدات التي حصلت عليها بعض البلدان العربية، مثل مصر إبّان حكم الرئيس أنور السادات، والتي كانت فتاتا مقارنة بما ناله الكيان الصهيوني من دعم عسكري، لوجدنا فيها الشواهد الملموسة على عدم المساومة التي نشير بها.
- ضمان تفوق العنصر الأبيض الأمريكي، وعلى المستويات كافة، داخل أسيجة حدود الولايات المتحدة، من خلال ضبط معدلات زيادة السكان بما لا يخلو من السيادة المطلقة لذلك الجنس. لا ينفي تلك القاعدة، بعض الرتوش التي تضعها دوائر صناع القرار في واشنطن بين الحين والآخر، مضطرة تحت موجات الرأي العالمية التي تشجب السياسات العنصرية الأمريكية المرتكزة على التحكم في التدفقات السكانية القادمة لها من الخارج. وإرغام تلك الموجات الخارجية على دفع الثمن غاليا عند استقرارها في الولايات المتحدة لضمان ذلك التفوق العنصري، خاصة في منعطفات الأزمات الاقتصادية الحادة، كما نشاهدها اليوم.
إذا قرأنا تلك المرتكزات بشيء من الموضوعية البعيدة عن الانفعال العاطفي، القائم على تداعيات إنسانية محضة، سنكتشف أنّ ما أدلى به ترامب من تصريحات خلال حملته الانتخابية، وما يطلقه اليوم من دعوات بعد وصوله إلى البيت الأبيض لا يتجاوز حدود الهامش الضيق المتاح له، ولا يخرق قوانين السياسة الخارجية الأمريكية التي رسمتها له بدقة ووضوح تلك الاتحادات الاقتصادية العملاقة. ومن هنا فمن غير المستبعد، بل من المتوقع أن يتفاجأ من تفاجأوا بتصريحات ترامب النارية بشأن "أمريكا القوية"، و"أمريكا التي يحق لها أن تقود العالم دون منازع أو منافس".. إلخ، وخطواته تجاه المهاجرين القادمين هروبا من بلدانهم وبحثا عن ملاذ في الولايات المتحدة، وهم يرونه يتراجع، تحت ضغوط تلك البيوتات، نحو "الطريق الصحيحة"، التي لا تفرط في المرتكزات الأساسية التي ترسم معالم الوجه الأمريكي الحقيقي.