الرد.. صُوَر من عمق المجتمع

 

د. عبدالله باحجاج

ينبغي أن نقف مع هذا الموضوع بصورة أكثر عميقا، وأكثر تأصيلا مما سنتناوله اليوم، للأهمية الجدلية المثار حوله، من هنا، فإن مقال اليوم سيشكل بداية لدخول مرحلة عصف ذهني، قد تنتج لاحقا محتوى علميا حول الثوابت الاجتماعية ومستجداتها، لدواعي التأصيل وللرد على رسائل سلبية تخرج من بعض النخب الفوقية، تخلط بين الثابت المستمر لمجتمعنا المحلي وبين المستجد الذي ينبغي أن يكون عابرا، فأصبح الثابت المستمر منسي أو متناسي، والمستجد هو الظاهر فوق السطح، ومثير للجدل، ومصدر للأحكام المغلوطة رغم أن ما يظهر فوق السطح ليست سوى حالات لا ينبغي أن تعمم، وتعميمها والتلويح بتأثر التنمية الإقليمية بها، تطرح مجموعة تساؤلات حول موقف السلطة الحكومية بشقيها المركزي والمحلي من هذه القضية.

وهي أي القضية مطروحة هنا من شقين أساسيين، الأول، ما أشرنا إليه في المقدمة، فالسلطة تترك الحالات المعرقلة للتنمية تتصاعد حتى تتراكم دون حل، مما تظهر للرأي العام وكأنها ضعيفة، فمن المسؤول عن العرقلة المواطن أم السلطة؟ فلو كانت هناك إرادة قوية للاستحقاقات التنموية، فلزاماً تعرف النور وفق قاعدة لا ضرر ولا ضرار، على أن يكون الحاكم فيها القضاء في حالة عدم الاتفاق، والثاني، والذي يهمنا بالدرجة الأولى، يكمن حول المواقف والأحكام التي تصدر على المجتمع من خلال هذه الحالات في تعميم وشمولية ظالمة، وكأنّ مجتمعنا بشقيه المحلي والجهوي مكون من مجموعة بشر مختلفة بطبعها، ولا يمكن أن تتلاقى أو تتقاطع عند مصالح استراتيجية دون التنازل عن مصالحها الخاصة أو الجماعية، وهذا غير صحيح، جملة وتفصيلا، وقد استفزنا كثيرا سماعها من نخب فوقية في جلسات خاصة ونخبوية أثناء زيارتنا للخارج الحالية، وهذا ما يحتم علينا أن نصحح المفهوم الخاطئ، لتوضيح الكثير من الحقائق المغيبة التي لا تأخذ المساحة الإعلامية نفسها التي تأخذها المستجدات التي تظهر فوق السطح الاجتماعي، فمعها يختفى الثابت، وهو الأصل، ويصبح المستجد مصدر الأحكام القطعية، ويتحول في نظر البعض إلى الأصل، بحيث أصبحت عملية عرقلة حفر بئر ماء أو بناء مدرسة بسبب نزاع على قطعة أرض.. بين أفراد مثلا، تشكل حالة معيارية للحكم القطعي المغلوط على المجتمع، وقد سمعنا أصواتا نشاز تقول مثلا // أتركوهم إذا ما يريدون تنمية // وقد أصبحت هذه حجة يلوح بها النخب وقوى اقتصادية مما قد يؤثر ذلك على الكثير من المسارات التنموية المحلية المستحقة، بحجة احتمالية معارضته، حجية تنفذ من واقع ممارسات محدودة تعمم حكمها، متناسية دور السلطة الحكومية في فرض الاستحقاقات التنموية الوطنية المحلية، فمنطق "اتركوهم" لن يستقيم مع فرضية السلطة القوية، ولا مع مسؤولية السلطة التنموية، فكيف يعقل أن يعرقل فرد أو حتى جماعة حفر بئر أو أي مشروع اقتصادي وسياحي مهما كان حجمه إذا كانت السلطة قوية؟ فمن ينبغي أن يتهم المجتمع أم السلطة؟ والأهم الذي يعنينا هنا، هو المفهوم الخاطئ عن المجتمع وفق ما لمسناه من لقاءاتنا المسقطية والخارجية، والتصحيح نقوله بصوت مرتفع أن مثل تلكم الظواهر تشكل استثناء طارئا وراءه بُعد نفسيّ من صنع السلطة المحلية – المتعاقبة – وقد أنتج هذا التراكم ثقافة مجتمعية متجذرة ترجح خيار (...) في مواجهة السلطة، بسبب سياسة الانحيازات والميول الشخصية والأمزجة النفسية.. فهذه الحالات من صنع السلطة نفسها، والفرد هنا يجد نفسه ضحيتها.. وفي بعض تلك الحالات في موقف ردة الفعل على أفعال سلطوية سابقة.

لسنا بصدد التعمّق في هذه المسألة – سنتركها للمحتوى المقبل – وإنما الذي يشغلنا هنا، التصوير الخاطئ والمغلوط لمجتمعنا من خلال الحالات الاستثنائية التي تظهر فوق السطح بين الفينة والأخيرة والتي تظهره بخصائص الانا والاستفراد اي الذاتية المغلقة، ربما ينقصهم المعرفة الحقيقية لطبيعة هذا المجتمع، فالعارفون به، سيرون فيه مجتمعا متضامنا ومنسجما ومتفاعلا مع بعضه البعض بصورة تلقائية دون أن تعرقله خلافاته أو اختلافاته التي قد تظهر على السطح، وهناك الكثير من الصور التفاعلية التي يمكن الاستشهاد بها دحضًا للتصوير الخاطئ، الصورة الأولى، التضامن الاجتماعي من أجل الحق في العلاج الخارجي، فبمجرد ما يحتم ذلك لفرد ما، ويتعذر الحصول عليه من الحكومة تسارع المجتمعات المحلية والجهوية إلى تأمين السفر له وتكاليف العلاج فورا على نفقة فاعليها الأهليين ورجالاتها الاقتصادية البارزين، ففي آخر لقاء بين شيوخ وأعيان وهالي في ولاية طاقة، تم توفير (مائتي) ألف ريال لعلاج اثنين من أبناء الولاية في الخارج، ولا ينحصر هذا التضامن الاجتماعي الأهلي على ولاية محددة، وإنما كل الولايات والنيابات، وما طاقة إلا نموذجا نخصها بالذكر كونها آخر الإحداثيات في مسيرة التضامن الاجتماعي، وأكثر الحالات التي تحفز التضامن الاجتماعي مرضى الكبد والكلي بسبب انتشار أمراضها في مجتمعنا المحلي، لماذا؟ تساؤل موجه لوزارة الصحة، وتساؤل آخر عن دورها في العلاج ما دامت تلك الأمراض قد أصبحت مقلقة وربما ظاهرة؟ وبالتالي، فالمجتمع لن يتفرج على وفاة أبنائه، مما نجده في تضامن بين كل شرائحه وفئاته من أجل الحق في الحياة، رامين بخلافاتهم عرض الحائط، والصورة الثانية، ما يسمى ( بالمغبور) وهذا اسم قديم، لا يزال يتداول على نطاق ضيق لإعادة الذاكرة به، لكن مضمونه وأهدافه النبيلة لا يزال المجتمع وفيا لها، ويتوارث بين الأجيال بصورة تلقائية وإرادية، فالمغبور هي مساهمة كل رب أسرة بمبلغ مالي لكل عريس في نطاق الولاية أو المحافظة، ويحرص الكل على المساهمة المالية وعلى المشاركة في الأفراح، ومشاهد الإقبال الكبير على خيم الأعراس التي تنصب في الساحات العامة إيام عطلتي الأسبوع، منظر رهيب، ودال على أصل المجتمع يضاهيه كذلك، مشاهد المشاركة المجتمعية في حالات الوفاة، بحيث تعج الجوامع بالمصلين وكذلك مجالس العزاء للتخفيف ومن وطأة الألم، وللتعبير عن التضامن من أسر المتوفين.

ماذا تعني لنا الصور الثلاث المختارة، إنّها دليل قوة المجتمع، ومفاعليها أي هذه القوة كامنة في تضامن المجتمع، وتعاونه، وتكاتفه؟ فليس هناك دليل على وجود هذه القوة أكبر من أن يحرص المجتمع بكل فئاته وشرائحه على حق أحد أفراده في الحياة مهما بلغ مرضه من مراحل متقدمة، فمجتمع هذا جوهر معدنه، وعمق أصالته، لماذا يختلف على بئر أو مشروع يخدم الكل؟ وكيف أفراد هذا المجتمع ينسون أو يتناسون خلافاتهم عندما يحتم منهم الوقوف مع بعض أفراده - وفق الصور السابقة -؟ فهل هناك من يستفيد من إشعال الخلافات؟ إذن، تصوير المجتمع بأنه مجموعة بشر متفرقة، لا يجمعهم سوى الخلافات والاختلافات، مردود على أصحابه، والعلة فيما سبق ذكره، لكن أين دور الفاعلين المجتمعيين داخل المجتمعات المحلية والجهوية؟ فلماذا لا يوظفون تلكم الروابط العميقة في تكريس حق العيش المشترك للفرد والجماعة، وكذلك حق المصلحة المشتركة بين شركاء المنطقة؟ لو اشتغلنا على صناعة رأي عام حول هذه المسائل الهامة، فلن تعرقل عملية حفر البئر أو رفض مشروع، مع تسليمنا بقصور سلطوي في فرض الاستحقاقات التنموية على الفرد والجماعة مع الاحتفاظ بحقوق المتضررين.