حاتم الطائي
يُبْرِز الدوران المتسارع لرَحَى الأزمة الاقتصادية الحالية، الحديثَ عن ضرورة تهيئة الفرصة أمام قيام تحالفات اقتصادية قوية، وشراكات دولية مستدامة، تُعلي سقف الطموح، وتعزِّز فرص التنافس، وتحجِّم نفوذ الأقطاب العالميين؛ كونها وسيلة ناجعة لزيادة فاعلية التطوير، ورفع مُؤشرات الجودة؛ كواقع تفرضه الحاجة لآفاق جديدة، تضمن دوام الازدهار، وتحقِّق استدامة التنمية.
وكأحد حلقات سلسلة اقتصادية عالمية، تؤثِّر فيه ويتأثَّر بها، تتجلَّى حاجة اقتصادنا الوطني لتعزيز مُحفزات الجذب الاستثماري، ومُعالجة وإضعاف التحديات أمامه؛ سيما ونحن نضع اليوم اللبنات الأولى في الجدار الواقعي لـ"تنفيذ"، ذاك البرنامج الطامح لتوليد إنفاق رأسمالي بقيمة 16.3 مليار ريال؛ نصيب القطاع الخاص منها 86%، وهي النسبة التي أشرنا إليها في أكثر من سياق بأنها "طموحة" -نوعاً ما- أن يضطلع بها قطاع لا يزال ينوء بعدَّة تحديات تقلل -بواقعية تستند لأرقام وتحليلات عديدة- آمالا تُعقد على قدرته الوفاء بها في الوقت المحدَّد، ليس إخفاقا منه أو ابتعادًا عن سياق مسؤولياته الوطنية، وإنما هي عقبات تجعل أعذاره منطقية ومشروعة.
وإذا كانتْ الحال كذلك، فإنَّ خلق بيئة جاذبة للاستثمار، لا بد أنْ يكون هو شغلنا الشاغل في الفترة الحالية؛ لضمان سرعة إنجاز المشاريع؛ فالبرنامج الوطني للتنويع الاقتصادي، وغيره من المبادرات والبرامج المشابهة، تتطلَّب تمويلا من مصادر مُتعددة، يحتكم في كثير من جوانبه إلى شراكات محلية ودولية على حدٍّ سواء، ودراسة متمعِّنة للأسواق لضمان صوابية الاختيار، فكما كانت التجربة الماليزية مرآة لاقتصادنا الوطني ونحن نستحضر محفِّزات التنويع في "تنفيذ"، فإنَّ كلَّ مبادرة من الـ121 التي أفصحت عنها مرحلة "المختبرات"، لابد أن تُوفَّر لها الظروف الملائمة والشركاء الفاعلين القادرين على صياغة خطط البناء التأسيسي لها؛ استفادةً من الخبرات، وتلافياً للأخطاء التشغيلية الأولى، وإنجازاً للمنافع المتوقعة مستقبلا.
والأمرُ لا يقتصر على "تنفيذ" وحسب، بل هي ثقافة لابد أن تتجَّذر في العقلية الاقتصادية للتعامل مع المستجدات؛ فنظرة عاجلة على واقع الاستثمار في بلادنا، تبيِّن حجمه دون المأمول؛ والحاجة الماسة لمراجعة وضعيته على خارطة الأولويات، خصوصا وأنَّ لدينا نجاحًا دبلوماسيًّا منقطعَ النظير لسياستنا الخارجية يُفترض معه استفادة أعظم أثراً على الجناح الاقتصادي التنموي في البلاد، التي يتوافر سوقها على مزايا يفتقد بعضها للترويج؛ كالقرب من الأسواق العالمية، والتكاملية المتحققة للبُنى الأساسية، والبيئة التشريعة المواكبة للتطورات. إلا أنَّ الأمل يظل معقودًا على الهيئة العامة لترويج الاستثمار وتنمية الصادرات والجهات المختصة الأخرى؛ ومنها: غرفة تجارة وصناعة عُمان؛ ووزارة التجارة والصناعة لبذل مزيدٍ من الجهود؛ لتكون بلادنا منطقة جذب استثماري، وقادرة على المنافسة في ميدان اجتذاب الفوائض المالية للاستثمار، وعقد شراكات تنموية بين عُمان والعالم.
والإشارة جديرة هنا كذلك إلى دَوْر أكبر يُنتظر أن تلعبه "صناديق التقاعد" في التفاعل بإيجابية مع الدعوة للاستثمار، عِوَضًا عن تجميد أموالها في البنوك دون فائدة تعود على اقتصادنا الوطني، أو اقتصار استثماراتها على الأسهم والقطاع العقاري فقط -المصاب بـ"التخمة" في الوقت الحالي- والتي لا تحقِّق اقتصادًا إنتاجيًّا أو صناعيًّا كفيلا بتحقيق خطط التنويع الجادة، ولا تفتح في المقابل أيَّ مجال لمشروعات إنمائية توفر فرصَ توظيف جديدة للمواطنين. والأمر ذاته ينطبق على ودائع البنوك العاملة بالسلطنة، التي يُؤمل تحريكها في استثمارات تضخُّ مزيدًا من الدماء في شرايين اقتصادنا الوطني، بما يعزِّز قدرته على مجابهة التحديات الماثلة والمستقبلية.
كما يُنتظر تحرُّك واسع على مستوى الحكومة والقطاع الخاص؛ للترويج للفرص الاستثمارية بشكل فاعل، وليس عبر مؤتمرات وملتقيات يتلاشى تأثيرها قبل أن ينفض سامرها، بل بتشكيل فرق مُتخصِّصة للترويج الاقتصادي على أسس علمية، ووفق منهجية واضحة، حتى يكون الناتج بحجم التطلعات، وفي صورة مشروعات رائدة تستوعب الأيدي العاملة الوطنية، وترفد اقتصادنا بالمزيد من عوامل القوة والانتعاش وتزيد تنافسيته عالميًّا.
وبينما يُعدُّ الاستقرار السياسي والأمني عاملًا حاسمًا في إنجاح عملية الشراكة، فإنَّ وضوح وشفافية القوانين والسياسات الاقتصادية واستقرارها هي الأخرى عوامل مهمة تسترعي أول ما تسترعي انتباه المستثمر الأجنبي، وهو ما يفرض استمرارية مراجعة التشريعات والقوانين المنظِّمة بشكل دوري بما يواكب التطلعات والآمال، مع مراعاة تكافؤ الفرص أمام المستثمر الأجنبي والوطني، وبما يَضْمَن بيئة عمل أكثر تنوعاً واستقراراً.
إنَّ الواقعَ الاقتصادي اليوم يفرض -وأكثر من أي وقت مضى- ضرورة إفراد مساحات أوسع من النقاش حول تعزيز آليات وسُبل تطوير الدخل القومي وزيادة مصادره، بشراكات واستثمارات دولية تدعم تنافسيتنا، وتعلي كعب فرصنا الإنمائية في التقدُّم خطوات للأمام، والتركيز على القطاعات الواعدة، بما يُتيح الفرصة أمام تسريع خطط التنويع، وتوفير فرص تشغيلية أكبر أمام الأعداد المتنامية لأبنائنا من الباحثين عن عمل، بفعل دوران عجلة المشروعات بنسب أعلى وتأثير أفضل على الإنتاجية، وهو ما لن يتحقق بسهولة إذا لم تتضافر الجهود وتُنظَّم الأدوار بين مُختلف الجهات ذات الاختصاص، بما يُوْجِد مَنَافذ أمل جديدة أمام احتياجات اقتصادنا الوطني.