نهاية الجدل.. أم بدايته؟!

 

د. عبدالله باحجاج

هل عدد الباحثين عن عمل في بلادنا 55730 فقط؟ إذا كانت كذلك، فكيف تشكل معضلة حكومية في بلد تعداد سكانه صغير نسبيا؟ وذلك العدد ذكرته إحصائية حديثة صادرة عن الهيئة العامة لسجل القوى العاملة، ويبدو أنَّ الهيئة قد بادرت إلى الكشف عنه، بعد أن ساد الغموض الحكومي وتبايناته حول الأعداد، وكثرة الاجتهادات الخاصة في تحديد أعدادهم، خاصة بعد جلسة المناقشات الأخيرة لمجلس الشورى مع وزير القوى العاملة. الإحصائية كانت واضحة للرأي العام، وتحملنا على تحليلها لدواعي التوضيح والتفنيد، خاصة وأنها قضية الاجيال، ومستقبل عُمان.

الاحصائية لم تنسب تلك الأعداد إلى كل الباحثين عن عمل في البلاد، وإنما أعطتهم توصيفًا دقيقًا جدًّا؛ وهو "النشطين" فقط، ومفردة النشطين ينبغي أن نتوقف عندها قليلا، فهى تعني أن هناك باحثين غير نشطين، هذا المنطوق المقابل لتلك الصفة، وهذا يعني في المقابل كذلك أن تلك الاعداد لا تعبر عن الأعداد الحقيقية للباحثين عن عمل؛ فالمقصود بالباحثين النشطين هم المواطنون الذين قاموا بتحديث بياناتهم في هيئة سجل القوى العاملة خلال آخر ثلاثة أشهر، ومن لم يُحدِّث بياناته خلال هذا القيد الزمني القصير يخرج من قائمة الباحثين عن عمل؛ وبالتالي: هل كل باحث قد قام خلال آخر ثلاثة أشهر بتحديث بياناته؟ وهل كل خريجي 2015-2016 قد بادروا بالتسجيل حتى الآن؟ إذن، ذلك العدد يخص الباحثين النشطين فقط، بينما هناك من لم يقم بذلك إمَّا لوصوله لحالة اليأس وفقدان الأمل في الوظيفة بعد وقف التوظيف منذ العام الماضي 2016؛ فكيف يحدث ومسيرة التوظيف مُعطَّلة حكوميًّا؟ التساؤل الأخير يحاول الدخول إلى نفسيات الكثير من الباحثين غير النشطين، لكي نفي صفة التمثيل الكامل لعدد الباحثين عن عمل في بلادنا وفق ما ذكرته الإحصائية سالفة الذكر، دون التقليل من أهميتها، ولا من مهنية التوصل إليها؛ فالعلة في الظروف النفسية التي تحيط بالباحثين غير النشطين، وهى ظروف ينبغي أن تكون مقدرة، وهى التي تقف وراء هذا البعد النفسي المحبط لدافعية التعاطي الإيجابي المستمر.

لكن: ماذا بعد الكشف عن عدد الباحثين رسميًّا؟ هذا هو الأهم الآن؛ فعلى بلادنا التعامل معه برؤية واضحة وشفافية، وبآليات عمل موضوعية وسريعة، تكون في صلب الاهتمامات السياسية للبلاد حتى لا ندخل مجددا في قضية التراكمات، وتلاقيها مع تحديات مستجدة مثلما حدث عام 2011، وأول ما ينبغي القيام به فورا: إقامة مراكز تشغيل في كل محافظة من محافظات البلاد، تضم أعضاء من المجالس البلدية والشركات الحكومية والخاصة والجهات الحكومية في كل محافظة، برئاسة المحافظين أنفسهم للتعبير عن الاهتمام السياسي المستحق خلال الظرفية الراهنة، بعد أن توفرت قاعدة بيانات عن عدد الباحثين في كل محافظة، وقد تصدرت محافظة شمال الباطنة القائمة؛ حيث وصل عددهم إلى 11 ألفا و955 باحثا عن عمل، أي ما نسبته 21،45%، ومن ثم محافظة مسقط ما نسبته 12،02% أي نحو 6700 باحث، بينما احتلتْ محافظة الوسطى المرتبة الأخيرة بنحو 497 باحثا عن عمل، فكل محافظة من محافظات البلاد يجب أن يكون شغلها الشاغل توفير فرص عمل دائمة وآمنة لهؤلاء الباحثين عن عمل، وهذا لن يتأتى لنا إلا إذا تحوَّلت هذه المراكز إلى منصات للعصف الذهني في البحث عن فرص عمل داخل كل محافظة، في القطاعات الحكومية والشركات الكبيرة، وفتح قنوات تواصل مع المحافظات الأخرى لتغطية نواقصها من التخصصات العملية والفنية التي لا تتوفر في أبناء المحافظات، أو نتيجة قلة فرص العمل فيها؛ وذلك عبر تدوير التخصصات والأيدي العاملة العمانية لما تمليه الحاجة التنموية لكل محافظة، ولإدارة إكراهات مناطقية متوقعة هنا أو هناك، شريطة أن تجمع هذه المراكز مظلة وطنية عليا حاكمة وضابطة لتوجهات المراكز الإقليمية، وأن تكون هذه المظلة عليا، وصاحبة قرار.

كلُّ الرهانات تتوقَّف الآن على اللامركزية في الشغل والتشغيل بعد فشل آليات التشغيل الراهنة؛ وبالتالي فإنَّ قضية الباحثين عن عمل تُحتِّم فعلا فكرا جديدا وآليات عمل حديثة، تراعي الأبعاد المناطقية، وحدية احتقاناتها، وتحدياتها المقبلة، وما نقترحه من آليات عمل، ومنصات للعصف الذهني، يصب في هذا الاتجاه تماما، ولو بحثنا في ماهيات المستوى التعليمي في إعداد الباحثين عن عمل وفق الإحصائية الاخيرة، فقد جاء أصحاب الشهادات الجامعية في المرتبة الأولى بنسبة 34،9% من إجمالي الباحثين، ومن ثمَّ حملة شهادات دبلوم التعليم العالي بما يعادل نسبته 32،6%، وبعدها الدبلوم الجامعي، والاخير دبلوم التعليم العام (الثانوية)، ووصل عدد الباحثين عن عمل من حملة شهادات الماجستير 111 باحثا و5 باحثين لحاملي الدكتوراه، وهذه المستويات التعليمية لابد أن تستوقف السلطة السياسية كثيرا؛ لأنَّ القضية تمس المؤهلين والمتخصصين من المواطنين، وتمس مصداقية مؤسسات التعليم العالي في البلاد، وتفتح ملف الاقتصاد الذي يعجز عن استيعابهم، كذلك ينبغي أن يستوقفها  عامل السن، فما بين 47% من الباحثين تتراوح أعمارهم ما بين (25-29) وما نسبته 28،92% تتراوح أعمارهم ما بين (18-24)، وهذا يكشف لنا بجلاء طبيعة الصراع المقبل، وآفاقه إذا لم نبادر من الآن في حل قضية الباحثين عن عمل، فهل نترك هذه القضية بتلك الحمولات الثقيلة للفكر وآليات العمل التقليدية الراهنة المسؤولة عنها أصلا؟ وهل من الحكمة أن نجعلها تتراكم سنويًّا؟

كما أنَّ بعض القرارات التي يجب أن تُتخذ لإدارة قضية الباحثين عن عمل في ضوء النسبة الذكورية والأنثوية لا يُمكن أن تُتَّخذ إلا بإرادة محلية خالصة حتى نتجنب ردود الفعل السلبية على المستويين الداخلي والخارجي إذا ما اتخذت مركزيا فقد تُفسَّر سياسيا. وفي هذا الصدد، فقد كشفتْ تلك الإحصائية أنَّ الإناث الباحثات عن عمل شكلن النسبة الأعلى بما يقارب الـ64،13%، بينما بلغتْ نسبة الذكور منهم 35،86%. إذن، القرار بيد المجتمعات المحلية؛ فعليها أن تختار لمن تكون له الأولوية أولا في التشغيل دون إسقاط الحق في العمل لأي من الجنسين؛ وذلك مراعاةً للخصوصية المجتمعية لكل محافظة، فهل نُشرك المجتمع المحلي في قضية التشغيل والشغل، أم نجعلها حكرا على المركزية؟!

من هنا، نرى أنَّ الجدال لم ينته بعد صدور تلك الإحصائية من الجهة المختصة، وإنما بدأ من منظور ذلك التوضيح والتفنيد، وكذلك من منظور قلقنا المرتفع من دخولنا في معمعة جديدة قد تنتجها عملية تراكم الباحثين عن عمل سنويا وفي صفوف المستويات التعليمية العليا والمتوسطة، فكيف لو تلاقتْ كل مستويات الباحثين عن عمل إذا ما واصلت الحكومة اهتمامها الأحادي الغالب بالجانب الاقتصادي؟ وكذلك ماذا لو واصلت الحكومة سياسة وقف التوظيف؟!.. للموضوع تتمة بعد عودتي من الخارج.