عبيدلي العبيدلي
لكن الفقر، سواء كان ذلك الفقر مدقعا أم غير مدقع، تحول من مجرد حالة اجتماعية بسيطة أحادية البعد، إلى أخرى أكثر تعقيدا متعددة الأبعاد. هذا ما ينوه له الباحث طارق نبيل النابلسي، عند معالجته لموضوعة الفقر، فنجده يعود "إلى نشوء مجموعة متنوعة من مناهج وتقنيات لقياسه -الفقر-". ويتوقف عند التعريف الذي بات يعتمده تقرير التنمية البشرية الذي يضعه برنامج الأمم المتحدة الإنمائي بانتظام "في دليل الفقر المتعدد الأبعاد (MPI)"، (الذي) يعتمد بيانات عن الحرمان في الصحة والتعليم ومستويات المعيشة". ويرى النابلسي أن الفقر المتعدد الأبعاد يتيح "التقاط أوجه الحرمان بشكل مباشراً يتخطى الجدل الذي يحيط بالقياس المادي للفقر، كما يتيح المقارنات بين البلدان".
لكن لا بد من التنويه هنا إلى أن الفقر المدقع، أو كما أصبح يعرف "المتعدد الأبعاد" لم يكن في يوم من الأيام ظاهرة عربية فحسب بل هو، في جوهره وأبعاده، حالة عالمية. هذا ما تشير له دراسة أعدها مركز بحث تابع لمؤسسة "كريدي سويس" صدرت مؤخرا محذرة من أن "التفاوت في الثروات عبر العالم في ارتفاع مضطرد منذ العام 2008، وأن نسبة1% فقط من عدد سكان المعمورة باتت تستأثر بنصف الثروات. وأن أوضاع الطبقة الاجتماعية الوسطى في مختلف الدول ازدادت سوءا بحيث انخفض معدل ارتفاع ثرواتها فيما استفادت الطبقة الغنية جدا من هذا التراجع وتسارع تراكم ثرواتها، (مضيفة) أن ثروة الشخص الواحد لـ 70% من سكان العالم (حوالي 3.4 مليار نسمة) لا تتجاوز 10 آلاف دولار فيما تتراوح ثروة الفرد الواحد لـ 20% من سكان الأرض (حوالي مليار نسمة) بين 10 و100 ألف دولار".
وكشفت الدراسة عن أن "ثروة الشخص الواحد لـ 8% من سكان العالم (383 مليون نسمة) تزيد عن 100 ألف دولار، بينهم 34 مليون مليونير أمريكي، وبين هؤلاء 123 ألف و800 شخص تزيد ثروة الواحد منهم عن 50 مليون دولار، و45 ألفا تزيد ثروة الواحد منهم عن مئة مليون دولار".
لكن بعض الدراسات تفشي ما هو أسوأ من تلك الأرقام، فتذهب إلى حد التأكيد على أن "ثروة ثلاثة من أغنى أغنياء العالم تصل إلى ما يعادل الناتج المحلي لأفقر 48 دولة في العالم، كما أن ثروة 200 من أغنى أغنياء العالم تتجاوز نسبتها دخل 41% من سكان العالم مجتمعين. وتوضح الدراسات أنهم لو ساهموا بـ1% من هذه الثروات لغطت تكلفة الدراسة الابتدائية لكل الأطفال في العالم النامي".
وهناك إجماع على تعدد الأسباب التي تقف وراء ظاهرة الفقر، فنجد "من يعزي ظهور الفقر واستمراره في أي مجتمع من المجتمعات إلى عوامل اقتصادية وسياسية، واجتماعية وثقافية، ومن أهم تلك العوامل: سوء إدارة الموارد الاقتصادية، وسوء توزيع الدخل والثروات والضغط السكاني، والكوارث الطبيعية، وتهميش دور فئات معينة في المجتمع كالمرأة وسكان الريف، والنزاعات الداخلية والخارجية... إلخ".
عميد كلية العلوم الإدارية والمالية الجامعة العربية الأمريكية في جنين شريف مصباح أبو كرش، في دراسته الموسومة " الفقر.. أهم أسبابه والمشكلات المترتبة عليه ومقترحات لمواجهة هذه ظاهرة"، يكون أكثر تفصيلا وشمولية عند تشخيصه للأسباب الكامنة وراء انتشار الفقر وتفشي أمراضه، فنجده يصنفها إلى فئتين، الأولى يصفها بـ "الخارجية"، ويعتبر "أهمها طبيعة النظام السياسي والاقتصادي السائد في بلد ما؛ فالنّظام الجائر لا يشعر فيه المواطن بالأمن والاطمئنان إلى عدالة تحميه من الظلم والتعسف. ويستفحل الأمر إذا تضاعف العامل السياسي بعامل اقتصادي يتمثل في انفراد الحكم وأذياله بالثروة بالطرق غير مشروعة نتيجة استشراء الفساد والمحسوبية فيتعاضد الاستبداد السياسي بالاستبداد الاقتصادي والاجتماعي وهي من الحالات التي تتسبب في اتساع رقعة الفقر حتى عندما يكون البلد زاخرا بالثروات الطبيعية كما حدث ويحدث في عدة بلدان إفريقية أو في أمريكا اللاتينية هذا فضلا عن الحروب الأهلية والاضطرابات وانعدام الأمن".
أما الخارجية، فهي لديه "متعددة وأعقدُ وأخفى أحيانا. ومن أكثرها ظهورا الاحتلال الأجنبي. ويتعقد الأمر كثيرا إذا كان الاحتلال استيطانيا كما في فلسطين".
لكن الكاتبة الموريتانية مريم بنت زيدون، تلفت إلى سبب في غاية الأهمية وهو العولمة، وتستعين في لإثبات ما ذهبت إليه بما تنقله على لسان من تصفه بأحد أقطاب الاقتصاد العالمي الجديد جورج سروس، الذي يقول "لقد أدت العولمة إلى انتقال رؤوس الأموال من الأطراف (ويعني البلدان النامية) إلى المركز أي الدول الغربية "، وهذا يعني باختصار أن العولمة حولت فتات ما كان يقتات عليه الفقراء إلى موائد المتخمين."
ثم تعود كي تعزز هذا القول بما يأتي على لسان الخبير الاقتصادي السابق في البنك الدولي جون ستجلتيز، الذي ينوه إلى "إن الدول الآسيوية القليلة التي انتفعت من العولمة هي تلك التي أدارت العولمة بطريقتها، أما البلدان التي تضررت وهي الغالبية فهي التي أخضعت نفسها لأحكام الشركات الكبرى والمنظمات الاقتصادية الدولية وهي المؤسسات المؤيدة للعولمة".
ولعل من بين أفضل من وصف حالة الفقير في مجموعة من أبيات الشعر التي ينسبها البعض للإمام الشافعي، في حين ينسبها البعض الآخر لـ "العباس بن الأحنف"، والتي تقول:
يمشي الفقير وكل شيء ضده...
والناس تغلق دونه أبوابها
وتراه مبغوضًا وليس بمذنب...
ويري العداوة لا يرى أسبابها
حتى الكلاب إذا رأت ذا ثروة...
خضعت لديه وحركت أذنابها
وإذا رأت يوما فقيرا عابرًا...
نبحت عليه وكشرت أنيابها
والمواطن العربي يتطلع إلى ذلك اليوم الذي تكف فيه الكلاب عن الخضوع وتحريك الأذناب، وعلى نحو مواز التوقف عن النباح والتكشير عن الأنياب. وهذا لن يتم إلا بوأد الفقر في البلاد العربية.