بلاد العم ترامب..!

 

 

حاتم الطائي

لقد وَضَع الرئيس الأمريكي الجديد دونالد ترامب نهاية مرحليَّة للقب ظلَّ لصيقًا بالولايات المتحدة منذ العام 1812، يعود لصموئيل ويلسون الذي كان مصدرًا لتجسيد "العم سام"؛ بعدما قفز رجل الأعمال والممثل ومقدِّم البرامج التليفزيونية فَوْق كل الحواجز، وكسر أيديولوجية سياسية تشعَّبت جُذورها وتداخلتْ في عديد من القضايا حول العالم، مُعلنًا في خطاب تنصيبه -الذي حمل بُعدا شعبويًّا واضحاً- أنَّ سياسة إدارته ستقوم على مبدأ براجماتي صرف وهو "أمريكا أولا". لاعباً مرة أخرى بورقة الإرهاب التي تُخيف الأمريكيين، وواعداً بتخليص العالم منهم وتصفيتهم عن بكرة أبيهم، في انعكاس لعقلية "إمبريالية"، تختزل إشكاليات العالم في شكل مُبسَّط يستهوي العامة من البسطاء، ولا يعلم مآلاته أحدٌ إلا الله.. وقد بدا ترامب خلال حفل تنصيبه يمشي بخُيلاء وغرور، واثقا من نفسه بشكل كبير، وكأنه "بلدوزر" قادم؛ مما يُنذر بزمن صعب نقف على عتباته اليوم.

فترامب الذي لا يملك الخبرة السياسية أو الدبلوماسية، لم يدع المجالَ أمامنا لأية توقعات؛ فالرجل المعتنق أفكاراً تقوم في جوهرها على عبادة المال، ولا شيء يلمعُ سواه، وتتخلى عن القيم الإنسانية النبيلة لصالح "المال أولا"، صرَّح بكل ما ينوي فعله في خطاباته الأخيرة، بدءًا بتهديداته المتكرِّرة ووعيده للعرب والمسلمين؛ سواءً المقيمين منهم بالتضييق عليهم ووضعهم تحت المراقبة، أو من هم بالخارج حيث لن تطأ أقدامهم "أرض الأحلام"ّ!! كعقيدة تُشبه إلى حدٍّ كبير تلك التي أفرزتها مدرسة بوش الابن بعد عمليات 11 سبتمبر، والتي تضمنها كتاب رون سوسكند بتعبير "عقيدة الواحد في المئة"، و"أنَّه في عالم الإرهاب الكوابح جميعها تتعطل، ومن يُحاول الاستيلاء على أسلحة لا يُمكن بعد اليوم الانشغال عنه بحسابات الخطر".

وكذا "الميل الترامبي" المتعاظم نحو العُزلة الأمريكية، التي رأى -في أكثر من مناسبة- أنَّها "تَعْرَق كي يكون العالم هادئا"، و"أنَّها تستثمر المال والدم كي يتسنى للعالم أن يتفرَّغ لشؤون أخرى"، وهو ما كان نتيجته تصريحات مُتشدِّدة ضد حلف شمال الأطلسي "الناتو"، تلك المؤسسة التي في نظره "ديناصور أكل الدهر عليه وشرب". أما الشيء الوحيد الذي أبْقَى عليه، فهو سياسة بلاده تجاه الصراع العربي-الإسرائيلي؛ إذ لم يبتعد دونالد عن التعهُّد بتحقيق وطن آمن لليهود يضمن حقوقهم بأكبر قدر مُمكن، وهي رسالة ضمنية بأنه سيعبث في المنطقة ويكيد المكائد بطريقة مكشوفة بعيدًا عن ألاعيب الخفاء والدهاء؛ وهي مواجهة لا تختلف كثيرا عن سابقتها سوى في المظهر؛ فاليوم نحن أمام عدو صريح أحمق لا مُنافق متعقِّل! وربما كانت هذه المرة هي الأولى التي يَصْعَد فيها رجل دين يهودي (راباي) ليشارك في حفل تنصيب رئيس أمريكي، بما يحمله ذلك من رسائل ضمنية تعزِّز الحلم الصهيوني في التغلغل أكثر بالأراضي الفلسطينية، وتزيد المخاوف من تنفيذ ترامب لوعده بنقل عاصمة الكيان إلى القدس الشريف؛ بما يُمثله ذلك من سكب مزيد من الزيت على نار الأوضاع المشتعلة بالأساس، لتخلِّف مزيدًا من الدماء في ظل غياب أفق سياسي لحلها.

... إنَّ مبادئ العهد الجديد الذي أشرق على سماء واشنطن بأداء ترامب اليمين الدستورية؛ تتكئ إلى محاور مهمة؛ تحدَّث عنها سابقا وأكَّد عليها الآن؛ أولها: إعادة بناء أمريكا من الداخل، والاهتمام بالاقتصاد الأمريكي والبنية الأساسية، كارتداد لعقليته الاقتصادية؛ فالبرنامج المتوقع بدء العمل به؛ رغم جُرأته، وما تمَّ الحديث عنه من مخاطر مُحتملة قيَّمتها المؤسسات العمالية بأنها ستكون مُكلِّفة جدًّا، يقوم على مبدأ العودة لـ"الاقتصاد التقليدي" المعتمد على الصناعة والزراعة، ومعالجة الثغرات الضريبية، وخفض معدل ضرائب الأفراد والشركات، وإلغاء الضريبة العقارية، وفتح الأراضي أمام التنقيب والنشاط النفطي لإضافة عائدات ضريبية سنوية تدعم الاقتصاد، إلا أنه لم تبدُ إلى الآن -على الأقل- تحركات فعلية لتنفيذ تهديده حيال اتفاقات التجارة الحرة، وتوجُّهه لطرد العمالة غير الشرعية لتوفير وظائف للأمريكيين.. وإنْ كان هُناك جدل بشأن قابلية الأمريكيين أساسا لشغل هذه الوظائف الدنيا في مجتمع جله من المهاجرين.

ثاني تلك المبادئ هو تكريس ترامب لسياسة خارجية براجماتية، وهو نزوع قومي لا يُراعي سوى مَصْلحة الذات وتغليبها على كافة مبادئ العولمة وعصر الإنسان. وعليه؛ فهو يختار خطا حازما أمام الصين، التي تحاول التعاظم الاقتصادي، فيما لا يشعر بالمقابل بحاجة لاتخاذ خط مشابه حيال روسيا، التي لا تشغل قوتها الاقتصادية بال الأمريكيين. إنَّه فقط يريد هدوءًا في جبهة الإرهاب، وأيًّا ما تكون الوسيلة المحقِّقة له فهو يدعمها؛ إن كانت بالقوة فسيستخدم القوة، وإن كانت بالتعاون مع الروس فسيتعاون معهم، وإن كانت بدفع ثمن التعاون مع الروس كترك بعض دول شرق أوروبا لمصيرها ولتعود إلى النفوذ الروسي، فترامب مُستعد لهذا أيضا، وهو محور سيجعل الولايات المتحدة قريبة من روسيا إلى حدٍّ ما، وستبتعد عن الصين، التي ستحاول احتواء قوتها قدر الإمكان، وإيقاف "التعملُق المتسارع" للتنين، بـ"حُروب وكالة" يُسْتَخْدَم فيها الحلفاء كاليابان وكوريا وتايوان.

وحالٌ كهذه تحمل نفس التساؤلات حيال إيران واتفاقها النووي، والذي سبق لترامب وصفه بـ"الاتفاق الأسوأ"، إلا أنَّ تقديره للاتفاق يُشبه تقدير رئيس وزراء دولة الاحتلال بأنه ليس بالضرورة إلغاؤه، وإنما يُمكن أن يُغطِّي اتفاق بديل للبنود المقلقة لإسرائيل، وهو أمر رهن مسألة: كَمْ يُقدِّر ترامب ما تُمثله إيران من خطر على أمريكا؟! وفي هذه اللحظة يبدو أنَّ إرهاب داعش يقلقه أكثر.

إنَّ حالة الإرباك التي يبدو عليها وَضْع الولايات المتحدة اليوم، تعكس سقوطًا لمنظومة النفوذ السابقة، وأنَّ ما أعلن عنه ترامب وما سيظل يُعلن عنه طوال فترة رئاسته هو ملامح لإستراتيجية استعمارية جديدة لتحقيق ما عجز عنه سلفه في المنطقة؛ وترميم النفوذ المتهالك في الساحة العالمية، للهروب من استحقاقات انقلاب المعادلة العالمية لصالح الخصوم الجُدد؛ لذا فعلى ما يبدو جاءتْ دراما التصريحات والتصريحات المضادة لخلق هالة حول "أمريكا ترامب"، سَمْتُها الرعب والجنون، لعلَّ وعسى تستعيد واشنطن بها هيبتها المفقودة.

ويبقى القول في الأخير.. بأنه بات على العرب اليوم أنْ يكونوا أكثر واقعية في التعامل مع المستجدات دون مُواربة أو وهم، وأن يَضَعوا مصالح شعوبهم على رأس الأولويات، وأن يكون التعامل ندًّا بند، وإلا فلا عزاء للمتمهِّلين.