سباق ناطحات السحاب العربية (2/2)

 

عبيدلي العبيدلي

 

تتكامل أزمة التعليم في البلاد العربية وانحدار مستوياته مقارنة مع المعدلات التعليمية الدولية والإقليمية الأخرى، مع أزمة البطالة كي تشكلان معا مشكلة مزمنة يفترض أن تتصدر أولويات مهمات برامج التنمية والتطوير العربية. يؤكد ذلك ما نقله الكاتب حسام مقلد من تقرير صدر مؤخراً عن البنك الدولي؛ أوجز فيه مجموعة من الظواهر التي يرى ذلك التقرير أنها، تقف وراء التخلف الذي يعاني منه التعليم في العالم العربي، ومن أبرز تلك الظواهر، كما وردت نصا:

1- مستوى التعليم في الوطن العربي متخلف بالمقارنة بالمناطق الأخرى في العالم.

2- حاجة نظام التعليم العربي إلى إصلاحات عاجلة لمواجهة مشكلة البطالة وغيرها من التحديات الاقتصادية.

3- على الرغم من أن معظم الأطفال في العديد من الدول العربية استطاع الاستفادة من التعليم الإلزامي، وتقلصت الفجوة بين تعليم الجنسين؛ إلا أن الدول العربية ما زالت متخلفة عن كثير من الدول النامية في هذا المجال.

4- خصصت الدول العربية 5% فقط من إجمالي الناتج المحلي، و20% من إجمالي الإنفاق الحكومي على التعليم خلال الأربعين سنة الماضية.

5- توجد فجوات كبيرة بين ما حققته الأنظمة التعليمية في العالم العربي، وبين ما تحتاجه المنطقة في عملية التنمية الاقتصادية.

في السياق ذاته، وفي نطاق تشخيص أزمات التعليم العربية، كشف تقرير آخر نشره موقع صحيفة "العرب" الإلكتروني، صادر عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي بالتعاون مع مؤسسة محمد بن راشد آل مكتوم في أواخر العام 2015، حمل تحذيرًا واضحا من "أنّ التعليم في كثير من الدول العربية يعيش حالة صعبة، وسيفضي إلى تداعيات سلبية على صعيد المستقبل العلمي والتقني للأجيال العربية اللاحقة، خصوصا إذا لم تقم تلك الدول بتبني استراتيجيات تعليمية جديدة. واُختتم بالإشارة إلى أنّ نسبة الاستثمارات في مجال البحث العلمي والتطوير، لا تتجاوز 0.3 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي وأنّ نسبة 97 بالمئة من البحوث العلمية في الدول العربية تعتمد على التمويل الحكومي.

تقرير متميز آخر نشره موقع هيئة الإذاعة البريطانية، أصدرته منظمة اليونيسكو تحت عنوان "رصد التعليم للجميع"، يحذر من أنّ "نحو نصف الأطفال في الدول العربية لا يتلقون تعليما ابتدائيا أو لا يتلقون أساسيات التعليم حتى عندما يلتحقون بالمدارس".

هنا لا بد من التوقف أمام المنزلة التي بات يحظى بها تطوير التعليم في خطط التنمية وبرامج التطوير الوطنية. هذا ما تؤكد عليه وثيقة أصدرها في العام 2015 "معهد اليونسكو للإحصاء، مشدد فيها على ذلك بالقول، لقد "أصبح التعليم الثانوي مصدر قلق متزايد وتحد كبير بالنسبة لواضعي السياسات العامة والباحثين في جميع أنحاء العالم، كونه يلعب دورًا متزايد الأهمية في خلق مجتمعات سليمة ومتماسكة ويحفز النمو الاقتصادي. وهو يمثل مرحلة حرجة في النظام الذي لا يقتصر على الربط بين التعليم الابتدائي والتعليم العالي فحسب، بل يربط أيضا بين النظام الدراسي وسوق العمل".

في ضوء كل ما تقدم يمكن الخروج بالاستنتاجات التالية:

1- هناك اختلال واضح في سلم أولويات التنمية العربي، بانجرافه نحو تشييد ناطحات السحاب الصماء، التي مهما بلغت من علو، ومهما حملت من معالم الجمال، تبقى مساهماتها في خطط التنمية الوطنية ضئيلة وهامشية، وغير قادرة على توليد القيمة المضافة السليمة التي تبرر حجم الاستثمارات التي باتت تستحوذ عليها. وتتفاقم المشكلة عندما تقاس حصة تلك المساهمة الاقتصادية لتلك الأبراج العالية مقابل الفرص الاستثمارية الأخرى المتاحة أمام السيولة النقدية عند بعض البلدان العربية، وعلى وجه الخصوص تلك "المهووسة" ببناء ناطحات السحاب تلك. ليس المطلوب الكف النهائي عن تشييد ناطحات السحاب العربية، ولكن ينبغي ألا يتم ذلك على حساب بناء العقول العربية. كي نصل بشكل صحيح، وعبر طرق سليمة التي تؤهلنا لتحقيق تلك المقولة، التي يرددها البعض منا وهي "التنمية البشرية هي تنمية البشر (المضمون) من أجل البشر (الناتج)".

2- تواجه البلدان العربية مشكلة مستعصية عندما يتعلق الأمر ببرامج محاربة البطالة ومحاولة التحكم في نسبها في أسواق العمل للحيلولة دون تفاقمها. وخطط الاستعانة باليد العاملة الأجنبية، بما فيها تلك غير الماهرة، ليست هروبا مدمرا للأمام فحسب، ولكنها تحمل في أحشائها أجنة تدمير اجتماعي في المستقبل المنظور، نظرا لما تولده تلك الخطط من تهشيم للنسيج المجتمعي المحلي من جانب، واستنزاف للموارد البشرية المحلية من جانب آخر. ومن ثم فهناك حاجة ماسة، لا تحتمل التأجيل من أجل الوصول إلى المعادلة الصحيحة التي تحافظ على الهوية المحلية، وقادرة على وقف هجرة الأموال المحلية، وتحويلها إلى استثمارات داخلية على حد سواء.

3- تعاني أنظمة التعليم العربية، بشكل عام، من تردٍ ملحوظ على المستويين الكمي والكيفي، يعبر عن تخلف، ليس بالمقياس النسبي المقارن مع دول أخرى، وإنما بالمعيار المطلق، عندما توضع في إطار كفاءة تلك الأنظمة على تلبية احتياجات المواطن العربي الأساسية من التعليم. يزداد الأمر سوءًا عندما نقيس الفجوة التعليمية التي تفصل بين هذه البلدان وبلدان أخرى، من بينها دول تنتمي للعالم النامي، الآخذة - الفجوة- في الاتساع لغير صالح البلدان العربية.

وفي المحصلة النهائية، لا بد من التأكيد على ضرورة التفات صناع القرار العرب نحو الإنسان العربي، كي يصبح هذا الإنسان، وليس البنيان هو محط اهتمام برامج التنمية، بما فيها تلك التي تشمل بناء ناطحات السحاب العربية. فتشمخ البلدان العربية بارتفاع قامات سكانها بدلا من علو عدد طوابق ناطحاتها السحابية.