الموروث الإسلامي بين التقديس والنقد

 

د. يحيى أبو زكريا

 

يجمع الكثير من العلماء والمثقفين على أنّ الموروث الإسلامي ألمت به تحريفات وإضافات؛ أخرجته عن مساره العقلاني والواقعي، وقد تسرطن الإرث الديني وكل جيل كان يضيف إليه عفونة وسرطانات جديدة على وقع الإعجاب الدائم على قاعدة أنّه من الله تعالى، ولا بد ألا يخضع لغربلة نقدية وإعادة صياغة وهذا ما جعلنا خارج التاريخ والجغرافيا والمستقبل والكوكبية.

وعلى الرغم من أنّ معظم علماء التفسير يقولون إنّ القرآن كتاب لآخر الزمان ونهاية الكون لكنهم يعتمدون في تفسيره على ما أفرزته عقول التفسير في القرن الأول والثاني الهجري، فأين السرمدية والصيرورة القرآنية التي يتحدثون عنها والمسلمون يتقاتلون بينهم بسبب الطائفة الناجية، وهم بذلك خسروا الدنيا التي ملكها الغرب والكيان الصهيوني، ويقينا الآخرة ليست للمتحاربين والمتخاصمين، والنتيجة لا دنيا ولا آخرة.. لقد ورثنا من الماضي أثقالا تلو الأثقال من الترسبّات الفكريّة، ولجأنا إليها في حلّ كل مشكلة تطرأ على واقعنا، ناسين أو متناسين أنّ الفكر وليد البيئة، والتراث الذي وصلنا إنّما عالج مشكلات كانت مطروحة في الحقبة التي وجد فيها، وتلك الحقب الماضيّة التي نستلهم منها كلّ علاج لجميع مشاكلنا، إنّما اكتنفتها ظروف خاصّة وحالات معينّة ومحددّة، وليس المفكّر هو الذي يعالج الواقع من منطلق كتاب دوّن في الطور الأوّل من العصر العبّاسي، بل الصحيح أن ينطلق هذا المفكّر من الواقع لحلّ المشكلة، دون التخلّي عن الثوابت الشرعيّة، وعن الكتاب والسنّة الصحيحة، إنّه من الخطأ بمكان أن ينطلق المفكّر من كتب عالجت المشاكل الاجتماعية في حقبة المماليك والتتّار ليستخرجّ منها الدواء الشافي لمجتمعاتنا. وتجدر الإشارة هنا أننّا لا نقصد البتّة لدى حديثنا عن الموروث الحضاري الكتاب والسنّة الصحيحة، بل المقصود هو النتاج الفكري الإسلامي الذي أنتجته العقول الإسلاميّة من صدر الإسلام وإلى يومنا هذا. وليس المطلوب على الإطلاق التخلّي عن التراث، بل المطلوب إعمال العقل ومحاولة الإبداع في كل المجالات، ولعلّ تقصيرنا في مجال الإبداع وصياغة خطاب عربي وإسلامي عصري أدّى إلى ارتماء النخب العربية والإسلامية في أحضان مدارس فكريّة لا تمّت بصلة إلى واقعنا العربي والإسلامي.

وقد وجدت هذه النخب في الخطاب الغربي سهولة في الفهم وعصريّة في الطرح واستيعابا لتفاصيل الحيّاة. وحجم الآفات التي تعصف بعالمنا الإسلامي من قبيل الأميّة والفقر والجهل والمديونيّة وأزمة التغذيّة وكثرة الوفيّات وسوء توزيع الموارد الأوليّة والبطالة وقتل الوقت والبيروقراطيّة وما إلى ذلك؛ تتطلبّ فكرا يستوعب كل تفاصيل هذه الأدواء ويقدّم دواء شافيّا واقعيّا لا طوباويّا.

ولا يختلف العقلاء مطلقا بأن الزوايا والكتاتيب والمعاهد الدينية والحوزات العلمية لعبت دورا كبيرا في طرد الاستعمار الإسباني والإيطالي والفرنسي والبريطاني من خط طنجة – جاكرتا وقد ساهم التعليم الديني بالطريقة التقليدية في الحفاظ على اللغة العربية التي كان يعمل الاستعمار الغربي على وأدها وقد تحولت معاهد التعليم الديني في المغرب العربي كما مشرقه إلى قلاع الذود عن الهوية الحضارية لأمتنا العربية والإسلامية، فالشيخ عر المختار كان يدرّس القرآن الكريم في كُتّاب ليبي وكذلك ساهمت الزيتونة والأزهر والنجف في الدفاع عن مقدسات الأمة ضد الاستعمار. وكانت هذه المعاهد الدينية تعتمد في مناهجها على: تدريس القرآن الكريم قراءة وتفسيرا والسنة النبوية متنا وسندا واللغة العربية نحوا وصرفا وبلاغة وأصول الفقه ومتون الفقه وكتب الأخلاق والآداب الربانيّة.

ومع تأسيس الكليات والجامعات الإسلامية تزايدت الفجوة بين التعليم الديني في المجتمعات الإسلامية والشروط الجديدة التي تفرضها "دراسة الأديان"، وكثيرا ما تعتمد مناهج التعليم الديني في العالم الإسلامي على النمط التقليدي وتعتمد مصنفات وضعت لأجيال انقرضت، وسمتها الاجترار والتكرار، وإن قالوا قلنا وإن ذكروا ذكرنا؛ وبعض المناهج المعتمدة في بعض الجامعات الإسلامية أعادت إحياء أسوأ ما في التاريخ الإسلامي ونفخت روحا جديدة في متون الكراهية والإقصاء والاستئصال، وقدمت هذه المناهج على أساس أنّها الإسلام.. وقد باتت المناهج التعليمية الدينية عرضة للتوظيف السياسي والأيديولوجي من قبل الحركات الإسلامية وبعض رجال الدين وكانت النتيجة انهيار العالم الإسلامي وموت العقلانية الإسلامية. ورغم محاولات علي باشا مبارك (1823-1893) صاحب النهضة التعليمية في مصر والذي يطلق عليه المؤرخون لقب أبو التعليم لعصرنة مناهج التعليم لكن اعترضته إشكالات عدة.

إن الحرص على صقل العقل الإسلامي صقلا كلاسيكيا ماضويا مرددا لمقولات المتقدمين هو الذي حال دون انبلاج عصر الحداثة الإسلامية.. فهل يعقل أن نقيم نهضة راهنة بكتاب وضع في العصر الأموي أو العباسي أو التتري أو السلجوقي أو العثماني أو الصفوي؟ مناهجنا التعليمية الدينية تحتاج إلى انتفاضة عارمة لأنها أوصلتنا إلى قندهار وطورا بورا وقطع الرقاب، وكان يجب أن توصلنا إلى المنظومة الشمسية والكونية، فبدل أن نصعد إلى المريخ رحنا نناقش كيف نأكل البطيخ؟!

 

yahyabouzakaria@gmail.com