د.عبدالله باحجاج
كيف كان وقع المشاركة المتدنية جدا في انتخابات المجالس البلدية على المؤطرين والمخططين للتطور المجتمعي في بلادنا؟ هل يحللون خلفياتها وأبعادها ويرسمون سيناريوهاتها المقبلة؟ وهل سنرى إصلاحيات جديدة على المسار الديموقراطي في بلادنا؟ لا يمكن السكوت على مسار التدني المتواصل في الإقبال على صناديق الاقتراع سواء للشورى أو البلدي، ففي انتخابات الفترة الأولى (2012- 2017) كانت النسبة (50،3%)، وفي الفترة الثانية تدنت إلى (39،8%).
وهذا يعني أنّ الكثير من الأعضاء الحاليين للمجالس البلدية لا يمثلون سوى القلة من المجتمع وليس الأغلبية، وهناك ولايات بلغت نسبة المشاركة فيها (14%- 17%) فقط، ومثل هذه النسب، هل ينبغي الاعتداد بنتائجها في القوانين الدستورية؟
نثير هنا قضية مصداقية التمثيل النسبي لإرادة الاغلبية، فمثل تلكم النسب لا يمكن أن تعبر عن الإرادة الجماعية، ولا تدخل في صلب العملية الديمقراطية، وما يسري على المجالس البلدية، هو الحال نفسه في مجلس الشورى، فالنسبة في انتخابات عام 2015، بلغت (56،6%) وهي نسبة ضعيفة كذلك، من هنا لابد من الإسراع بعملية المراجعات والإصلاحيات الشاملة عامة ومجلس الشورى والمجالس البلدية خاصة، فالمسيرة المتدنية في الانتخابات الشورية والبلدية تعبر عن عدم الرضا عن نتائج هذه المؤسسات بسبب صلاحياتها الاستشارية غير الملزمة، ومن هنا يحدث عزوف الأغلبية في توقيت دقيق جدا، وحساس من الوزن الثقيل، يتقاطع مع اختلافات جوهرية بين الحكومة والمجتمع بشان سياساتها المالية والاقتصادية لمعالجة تداعيات الأزمة النفطية، كما أنّ مساحة الثقة بين الجانبين في القاع؛ على ضوء التباين الكبير فيما يراه المجتمع من تحسن واستقرار أسعار النفط التي وصلت إلى ما فوق (55) دولارا للبرميل، وكل المؤشرات والمعطيات تشير إلى تصاعدها المتواصل بعد اتفاق الدول النفطية من داخل الأوبك وخارجها على تحديد سقف الإنتاج، فيما لا تزال الحكومة تمارس نفس سياسة التشدد في سياساتها المالية والضريبية، وتجميد الحقوق الاقتصادية، وكأنها لم تغادر لحظة انهيار الأسعار في منتصف عام 2014، هنا جوهر الخلاف بين الجانبين، ومنه ينسحب على عدم الرضا عن نتائج ممثلي المجتمع في تلك المؤسستين سواء بسبب الأداء أو الصلاحيات أو كليهما أو الوضع العام منذ منتصف عام 2014.
لا ينبغي أن نقلل أبدا من عزوف أكثر من (64%) من المواطنين عن انتخابات الفترة الثانية للمجالس البلدية، هذا في حد ذاته موقف اجتماعي مضاد، ليس وراءه تنظير أو خطط، وإنما هو تلقائي، سيكولوجي في الغالب، تراكمي، وتصاعدي، وإذا لم يستوعب سيخرج عن التلقائية السيكولوجية إلى التلاقي الإرادي الجماعي، في لحظة التأثير الملموس لتداعيات السياسات المالية والضريبية المُقبلة على المجتمع عامة والشباب خاصة، فهل هناك من يعمل للحيلولة دون أن نصل إلى هذه التأزمات وانفجار الاحتقانات؟
من هنا، نرى أنّه من المصلحة الوطنية، أن تسعى الحكومة جاهدة لنجاح الفترة الثانية للمجالس البلدية بنتائج ملموسة لرفع المعنويات الاجتماعية في ظل كل الإحباطات المحيطة به، وإعادة كسب المصداقية للمجالس البلدية التي هي في أسمى معانيها، تعد نواة للحكم المحلي للمحافظات، ووسيلة ناجعة في تحمل وتحميل المجتمعات المحلية مسؤولية الخدمات والتنمية الإقليمية، وهذه عملية استشرافية لإدارة الصراعات المقبلة، إذ أنها لن تأخذ مساراتها الفوقية والثنائية الحادة، وإنما ستكون في إطار تحميل الذوات المناطقية مسؤولية اختياراتها للنخب في هذه المجالس، وبهذا ستظل السلطة المركزية في منأى عن اخفاقات المحافظات في مجالات النظم والخدمات.
وبدلا من الذهاب إلى هذا الاتجاه الحتمي، غرقنا في الاستصنام التدرجي كما ذكرنا في مقال سابق، وقد كان هذا إحدى استشرافاتنا الحديثة للعلاقة بين الحكومة والمجتمع، فلم يكن من الذكاء، الاستمرار في نسخ استصنام التدرج من تجربة الشورى إلى المجالس البلدية والآن إلى استصنام وصايا الوزير على توصيات أعضاء المجالس البلدية في الفترة الثانية، وكأن ممثلي المجتمع ناقصو الأهلية السياسية، كان لابد من الانفتاح المرن كضرورة حتمية في ضوء ما يعتبره المجتمع إخفاقات للحكومة في مجالات كثيرة، وهذه الإخفاقات تمس معيشته، ولا تغل أيادي التدخلات الفوقية في ثروات المجتمعات المحلية المحسوسة وغير المحسوسة.
ويعطينا هذا الاستصنام التدرجي - الناسخ والمنسوخ من تجربة الشورى – إنّ هناك بعضت من قوى التأثير التقليدية تقف في وجه مسار التقدم المجتمعي، وعلاقته بالسلط الحكوميّة، وموقفها هذا، يجمد الوضع، ويجعله في مواجهة معطيات ووقائع جديدة، لا يمكن أن يتعايشا خلال المرحلة المقبلة، وهي قريبة جدا، نحددها بمدة سنتين مقبلتين إذا ما تعمّقت تداعيات السياسات المالية والضريبية الحكوميّة في بنيات المجتمع، فهل هناك من يهتم بمثل هذه الملفات؟ إذا لم يكن، فينبغي أن تكون هناك مؤسسة متخصصة وتكنوقراطية تدرس حتميات تطور المجتمع، ومستقبل علاقته مع السلطة الحكومية، وكيفية تفكيك الاحتقانات.