تركيا في مرمى نيران "داعش" والأكراد .. والمواقف المتأرجحة تلقي بأنقرة في بحيرة دم

...
...
...
...
...
...
...
...
...

 

 

الرؤية - خاص

قبل حوالي عامين بدا الرئيس التركي السابق، عبد الله جول، مطمئناً وهو يتحدّث عن "داعش" ، نافياً أنّه خطر قادم ويُشكّل تهديدًا أيديولوجيًا على تركيا، ووصف التنظيم بأنّه "حركة سياسية لا دينية " في تصريح أثار جدلاً كبيرًا خصوصاً في وقت كان لدى أغلب المراقبين السياسيين قناعة بأنّ أنقرة و"داعش" حليفان.

الأهم من ذلك أنّ وسائل الإعلام التركية نشرت في أكتوبر 2014 نسخة من وثيقة رسمية، مرسلة من القنصل التركي في مدينة الموصل العراقية، إلى وزارة الخارجية في بلاده، حذّر فيها من أنّ "الأوضاع في الموصل تتجه نحو الأسوأ مع تقدّم تنظيم الدولة الإسلامية". وذكرت المصادر، التي نُقلت عنها الوثيقة، أن الردّ لم يتأخّر وجاء نصّه كالتالي: "داعش ليس خصمًا لنا" !!

في الخلفية كان هناك اتفاق على أنَّ أنقرة فتحت منذ احتدام الصراع في سوريا، أبوابها لمُختلف المجموعات المعارضة المعتدلة والمتشدّدة، ومع ظهور بوادر ضعف جماعة الإخوان المسلمين، كقوة معارضة، وفشلها في تغيير مجرى الأحداث على غرار ما حدث في مصر وتونس قبل عدة سنوات، قرّر رجب طيب أردوغان، الذي كان وقتها رئيساً للحكومة التركية ومأخوذا بحلم بسط النفوذ الإخواني في منطقة الشرق الأوسط، التوجّه إلى الجناح الدموي المُتطرّف، الذي سيساعده على الثأر من العراقيين إلى جانب تحويل وجهة الصراع في سوريا من ثورة سلمية لإسقاط النظام إلى حرب مُسلّحة.

وتوالت بعدها الاتهامات ومنها ماهو موثق إلى الحكومة التركية بدعم جماعات إرهابية في عدة بقاع بالمنطقة وعلى رأسها سوريا والعراق...

بعد مرور عامين وبضعة أسابيع على ذلك وبينما يحتفل العالم، والأتراك بليلة رأس السنة الميلادية وفي أوَّل دقائق من العام الجديد وصل شخص ينتمي إلى تنظيم داعش إلى ملهى رينا على ضفاف البسفور في سيارة أجرة، وأخرج بندقية كلاشينكوف كان يحملها، ليُطلق النَّار على شرطي ومدني في المدخل، ثم اقتحم الملهى ليفرغ 4 خزانات من الرصاص في أجساد المحتفلين (120 طلقة)، ليسقط حوالي 40 شخصًا قتلى إضافة إلى عشرات المصابين، ووسط الفوضى الدامية التي عمَّت المكان وبينما يلقي الساهرون بأنفسهم في البسفور هرباً من الموت قام المهاجم بتغيير ملابسه ورمي سلاحه واختفى من موقع الحادث من دون أن تتمكن القوات الأمنية من التعرف عليه، إلا أنَّ تلك القوات لم تتردد في أن تؤكد أنه ينتمي إلى "داعش" قبل أن يعلن التنظيم مسؤوليته عن العملية الإرهابية التي دفعت تركيا لأن تتشح بالسواد.

وقال التنظيم في بيان وضعه على تطبيق على موقع تيليجرام وتناقلته بعض وسائل التواصل الاجتماعي، إنّ أحد جنوده استهدف احتفالاً "شركيا" في العام الجديد رداً على "استهداف الحكومة التركية للمُسلمين".

وأضاف البيان أنَّ الهجوم يأتي تلبية لنداء من زعيم التنظيم، أبوبكر البغدادي، لاستهداف تركيا، وهو مواصلة للعمليات المباركة التي تخوضها الدولة الإسلامية ضد تركيا، حامية الصليب، حيث دكَّ أحد جنود الخلافة الأبطال أحد أشهر الملاهي الليلية حيث يحتفل مسيحيون بعيدهم الشركي.

 بدورها أعلنت السلطات التركية أنّها تحاول التأكد من وجود صلة للجاني مع الخلية التي نفذت هجومًا بثلاثة تفجيرات انتحارية وبالرشاشات على مطار أتاتورك وأودى بحياة 47 شخصًا، وألقيت المسؤولية وقتها على داعش.

الهجوم وقع بعد 75 دقيقة فقط من بداية العام الجديد، أثناء تجمع حوالي 700 شخص في الملهى المطل على مضيق البوسفور، والذي يحظى بشعبية كبيرة بين المشاهير والأجانب، ويقع في أحد أكثر الأماكن الراقية في مدينة إسطنبول، وقد أكد شهود عيان سقوط عدد أكبر من الضحايا يفوق ما أعلنت عنه الحكومة وأنهم ساروا فوق الجثث للهروب من المذبحة، وبدوره سارع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، بإلقاء اللوم على "الجماعات الإرهابية التي تحاول خلق حالة من الفوضى" وقال "إنّهم يحاولون تحطيم معنويات شعبنا وزعزعة استقرار بلدنا".

مسلسل الدم في تركيا خلال العام المنصرم كان طويلاً وقاسياً: 13 مارس حيث وقع التفجير في أنقرة، 10 ديسمبر تفجير مزدوج خارج ملعب لكرة القدم في إسطنبول أودى بحياة 44 شخصًا، وأعلنت جماعة كردية مسلحة المسؤولية عنه.

وفي 20 أغسطس هجوم بقنبلة على حفلة عرس في غازي عينتاب أودى بحياة 30 شخصًا، يشك بمسؤولية تنظيم الدولة الإسلامية عنه، وفي 30 يوليو حاول 35 مسلحًا كردياً اقتحام قاعدة عسكرية وتمكن الجيش التركي من قتلهم، وفي 28 يونيو هجوم بأسلحة خفيفة وقنابل في مطار أتاتورك بإسطنبول أودى بحياة 41 شخصًا، وألقيت المسؤولية عنه على مسلحي تنظيم الدولة الإسلامية، وفي 13 مارس قتل 37 شخصًا في تفجير انتحاري لسيارة مفخخة في أنقرة، نفذه مسلحون أكراد.

وفي 17 فبراير قتل 28 شخصًا في هجوم على قافلة عسكرية في أنقرة، وبدا الوضع وكأنه لا يمر أسبوع بين الضربة والأخرى، من الهجوم الجريء بالمسدسات والقنابل في المطار الدولي الرئيسي إلى مذابح في الشوارع المليئة بالسياح في المدينة، لاغتيال السفير الروسي في العاصمة أنقرة.

 ومايثير الدهشة تجاه الإجراءات الرسمية التركية كرد فعل على تلك الهجمات المتوالية أنَّ وزارة الخارجية الأمريكية حذرت قبل شهرين تقريباً من أن "الجماعات المتطرفة ستواصل الجهود العدوانية لمهاجمة مواطني الولايات المتحدة في مناطق إقامتهم بإسطنبول أو الأماكن التي يرتادونها."

وليس خافياً أن حكومة أنقرة الساعية لبسط نفوذها السياسي بالمنطقة والحالمة بدور تركي إقليمي أكبر تواجه نوعين من الإرهاب الذي سيستهدف تركيا الآن: الكردي و"الإسلامي المُتطرف".

بعض المحللين استسهلوا إلقاء اللوم على رئيس تركيا القوي الذي يزداد استبدادية، رجب طيب أردوغان، إلا أن البعض الآخر رأوا أن ذلك يعد تبسيطاً مبالغاً للاضطرابات التي تحدث، إلا أن اسم أردوغان ومساحة دوره بالفعل عامل مهم في تشكيل مصير تركيا خلال هذه الآونة.. وهو الذي أنهى قبل 4 سنوات ثلاثة عقود من الصراع الدامي مع الأكراد في البلاد. وهم يشكلون نسبة 20 في المائة من الشعب التركي الذي يبلغ عدده 80 مليون نسمة. وقُتل عشرات الآلاف في حملة إرهابية بينما حارب الأكراد الدولة مطالبة بحقوق أفضل.

ومع السلام جاءت الشعبية، إذ فاز حزب كردي علماني بمقاعد في الانتخابات الوطنية التالية. ولكن مكاسبه هددت قبضة أردوغان على السلطة التشريعية.

وفي حين كان ذلك يجري، احتدمت الحرب المجاورة في سوريا. وعقدت الولايات المتحدة الأمريكية اتفاقاً مع تركيا لاستخدام قاعدة "إنجرليك" الجوية القريبة من الحدود السورية من أجل ضرب أهداف تنظيم "داعش". وبالمقابل، وافقت تركيا على ضرب "الإرهابيين" أيضاً.

وحسب المراقبين فإن تركيا عندما فعلت تركيا ذلك، لم يكن تركيزها على "داعش"، وإنما عدوها القديم، الأكراد، الذين كانت تخشى أنقرة اكتسابهم أراضٍ داخل سوريا.

لهذا اشتعلت الحرب بين تركيا والأكراد مرة أخرى في أشهر قليلة، وتسببت انتخابات مبكرة بعد بضعة أشهر بتعجيز أصوات الأكراد واستعادة سيطرة حزب أردوغان على الحكومة.

وبحلول 2016، أصبحت تفجيرات "العين بالعين" الكردية والكمائن والهجمات المسلحة التي كان أغلبها ضد أهداف عسكرية وأمنية، الموسيقى الخلفية القبيحة للعام.

وبدوره يبرز "داعش" ليحتل مساحة كبيرة من المشهد العبثي الدامي، إذ في السنوات الأولى للانتفاضة السورية، سعى أردوغان للإطاحة بالرئيس السوري بشار الأسد، الذي كان يوماً ما صديقه، عن طريق دعم المعارضة السنّية.

ومع ازدياد قوة "داعش"، استفاد التنظيم من سياسة تركيا تجاه المعارضة. إذ عبر الآلاف والآلاف من مُجندي "داعش" تركيا في طريقهم إلى الحرب.

الحدود شبه المفتوحة سمحت لمُقاتلي "داعش" وأسلحتهم بالتدفق عبر تركيا، لتوفير الإمدادات وطرق الهروب وإنشاء البيوت الآمنة من تحت أنف أردوغان.

وعندما انتبهت الدولة في وقت متأخر وشددت تأمين حدودها، أصبحت مليئة بعناصر "داعش".

وبعد أن تغيرت موازين الحرب في سوريا وتحركت روسيا لإنقاذ الأسد، بدأ أردوغان بإعادة التقييم، وتحول الزعيم التركي إلى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي يزداد نفوذه لعقد صفقة.

وسلّط اغتيال السفير الروسي على يد شرطي تركي في أنقرة قبل أسبوع عيد الميلاد الضوء على سرعة تغير توجّه أردوغان. إذ لم يتوقع الكثير من الأتراك، أن يذبل دعمه لإخوانهم في الدين، المعارضين السنّة، بهذه السرعة.

ويبدو أنَّ أعضاء داعش كانوا على قناعة بأن تركيا صارت عدوا صريحا بالنسبة إليهم ...ومع التردد والعمل في الخفاء ربما حرصا على عدم إحراق كل الأوراق كشف التنظيم عن وجهه ....فهو لم يُعلن في البداية مسؤوليته عن هجوم مطار أتاتورك في يوليو العام الماضي، ولكن بحلول نهاية العام لم يكن هناك بد من الإعلان والمصارحة، لتصبح تركيا في مرمى نيران داعش والأكراد من قبله، ويبدو الداعشيون عازمون على تقويض النفوذ التركي، واستهداف السياح لضرب الاقتصاد، وشن حرب مفتوحة على العلمانيين في تركيا لتعميق الجرح الذي فتحه أردوغان بين المحافظين والأقل تديناً.

هدف "داعش" سيكون خلق حالة من الفوضى، وسيواصل الأكراد معركة الأجيال. لا يُبشر أي منهما بالخير لتركيا، وجيرانها في أوروبا أو حلفائها في واشنطن، وهو ما يدفع إلى القول بأنَّ عام 2016 كان عبارة عن لوحة دامية في تركيا، وعام 2017 سيكون عبارة عن لوحة دموية أكثر وقاتمة أكثر.

 

 

 

تعليق عبر الفيس بوك