علي كفيتان
مضت الأيام والسنون ونحن نكابد الصعاب كطلاب علم، حيث كنا نمشي يومياً ما يقارب 10 كلم حاملين على ظهورنا كل أمتعتنا التعليمية، يدفعنا شعور غريب بحب التعليم رغم قساوة الظروف المحيطة، كنا ننام مبكرا ونصحو مبكرا وننتظر اليوم التالي للدراسة بشغف لا يوصف، كان دعم التعليم واضحا منذ الوهلة الأولى لانبلاج فجر النهضة التي قادها مولانا جلالة السلطان – حفظه الله ورعاه - فكان لكل طالب معونة مالية تقدمها الحكومة عبارة عن مبلغ عشرة ريالات شهريا، كانت في تلك الأيام مبلغا معتبرا إذا ما عرفنا أنّ راتب جندي الفرقة يوازي سبعين ريالاً فقط، إنّ هذه اللفتة ساهمت في زيادة عدد الطلبة بعد أن ضمنت لهم الحصول على الأدوات الأساسية للتعليم فكانوا يستدينون عليها من دكان (أرعلال) بينما هو يستلم المبلغ من مدير المدرسة مباشرة عندما يقدم صحيفته من ديون الفسحة آخر الشهر وفي أحيان كثيرة كنا نتظاهر عند المدير لعدم إعطاء كامل المبلغ للسيد أرعلال فكنا نحصل على نصفها نقدًا في ظل غضب راعي الدكان الذي يتابع الديون لأهل الطلبة الذين لا يجدون بدا من دفعها من راتب الفرقة، ومن لم يوفِ استحقاقاته فإنّ الضامن هو قائد الفرقة الذي يأتي نهاية كل شهر بشنطته الدبلوماسيّة السوداء التي تحمل الرواتب فيستقطع ديون الدكان أولا ثم العلف الحيواني ولا أظن بأنّ هناك شيئًا يبقى من السبعين إلا القليل.
في خضم تلك الأحداث كانت الشركة الكورية تنجز مشروع سفلتة طريق صلالة – طيطام، كنا كل مساء نذهب بفضولنا الطفولي إلى "كامب" الشركة الممتلئ بالكوريين ومن القصص العجيبة أن أصحاب الفرقة وتعبيرًا عن فرحهم بالطريق فقد أهدوا عجلا للمهندس المشرف على المشروع كنوع من الكرم والامتنان معاً فقام الكوريون باحتجاز العجل بين صهاريج المياه حيا لعدة أيام دون أن يطعموه، وعندما عرف "الشيوبة" عن الحادثة توجهت فرقة من الرجال المسلحين لكامب الشركة مستفسرين عن مصير العجل المحتجز وبدافع الفضول كنت معهم وبعد نقاش طرشان طويل فلا الكوريون يفهمونهم ولا هم يدرون ماذا يقول وهنا تدخلت ببضع كلمات إنجليزية تعلمتها من الأستاذ السوداني مصطفى الطيب الله يذكره بالخير واستطعت أن أفهم لماذا الكوريون محتفظون بالعجل لأنّ رئيسهم سيحضر في اليوم التالي، ويودون أن يولموا له، ولكن اعتراض الشيوبة عن عدم تغذية العجل، فعُقد اتفاق أن تحضر البقرة أم العجل لإرضاعه حتى تحين الساعة، وكم كانت مهمة صعبة، فالبقرة جفلت من رائحة الكوريين والعجل يثوي في "الكامب" حتى تم إطلاقه بتدخل من شخصية عامة ضمنت إحضاره في المساء، وهكذا حصل. لكن مأساة العجل لم تنته هنا ففي ظهر اليوم التالي حضر رئيس الشركة الكوريّة فأخذ الكوريون العجل وصاروا يقذفونه في حفرة عميقة عدة مرات كي يموت، وهنا ثارت ثائرة الرجال عندما علموا بالحادثة ولكنّهم حضروا بعد أن فارق الحياة.
ومنذ ذلك اليوم سخط الناس من الشركة، وصاروا يتجنّبون الحضور "للكامب" وهم لا يعلمون أنّ الثقافات تختلف فكانوا يحسبون أنّ الكوريين يذبحون مثل المسلمين ولكنّهم دهشوا لوسيلتهم غير الإنسانية في القضاء على الحيوانات، وكان أكثر المنزعجين هو من تبرّع بالذبيحة فصار يذكر لنا بصورة مأساوية طريقة إعدام العجل، ويكنيه بأمّه واسم فصيلته البقريّة عالية المقام التي لا يجب أن يُفعل بها كذا، وأعتقد أنّه كان ينوي الثأر لولا تدخل العقلاء.
لا زلت أنا الطالب الوحيد المصرح لي بالمبيت في الفرقة من القائد حسن صيراد - رحمه الله - ولا يجرؤ أحد على مخالفته، لذلك كنت الشاهد على بطولات هؤلاء الرجال ونزاهتهم، في إحدى الأيام الشتويّة الباردة كان يناوب في الفرقة والدي وسالم سنياح، وحامد زيدي، وبخيت حسن نصيب - رحمه الله - وآخرون لا أذكرهم، بينما كان نائب قائد الفرقة علي فرج مسحات ذاهب للاطمئنان على أسرته غير البعيدة من مركز الفرقة لحين عودته. أبو أزاد شخصية نادرة رجل عفوي طيب شجاع لا يحمل شيئا في نفسه إلا الحب للجميع وهو كذلك حتى اليوم - حفظه الله وأدام عليه الصحة والعافية- في ذلك المساء سمعنا طلقات نارية من بعيد وكانت في تلك الفترة الحرب مستعرة فأطلق والدي صيحات الإنذار محذرا من الهجوم وحسب ما أذكر أنه الأعلى رتبة بين المناوبين مما يعطيه صفة القيادة حتى حضور بن مسحات فتم تقسيم المحاربين كالتالي حسب ما أسعفتني به الذاكرة سالم سنياح ووالدي كانا على مدفع الهاون، وآخر كلف بمهمّة الاستطلاع في الخطوط الأمامية، بينما بقى الآخرون لحماية المعسكر. الخطة كانت ضرب مصدر النيران عبر قذائف الهاون اليدوي الذي يعمل بطريقة بدائية حيث يوضع على حامل ومؤخرته على الأرض ويتم تلقيمه بالقذائف لتنطلق إلى أهدفها، تمّ اختيار موقع الهاون خارج المعسكر تحت شجرة الشيراس (شجرة محلية معمرة) ومن هناك انطلق القصف الذي لا يرحم ونحمد الله على نجاة جندي الاستطلاع من النيران الصديقة، وفي تلك الأثناء حضر أبو أزاد راكضاً وبندقيّته في يده عند سماعه دوي المدفع، وعند حضوره أعطاه الوالد إيجازا عمليا عن العملية، بينما سنياح يواصل القصف المدفعي في كل الأنحاء، صمتت النيران التي كنا نسمعها من بعيد وهنا فرح بن مسحات وصار يمدح جنوده البواسل ولكنّه دفع بقوة استطلاع أخرى إلى أرض المعركة فتبين أنّ النيران كانت عبارة عن ابتهاج لأعضاء فرق أخرى في الغرب كانوا ينوون المجيء إلى فرقة طيطام لاستلام رواتبهم الشهرية دون سابق إنذار ولكنّهم عادوا أدراجهم بعد أن تلقوا ذلك القصف الشنيع.
ستظل تلك الأيام منسيّة وأبطالها هم من أبناء ريفنا وباديتنا العظيمة بعظم رجالها المخلصين الأوفياء لربهم ووطنهم وسلطانهم المفدى -حفظه الله وعافاه-.
استودعكم الله وموعدنا يتجدد معكم بإذن الله.
حفظ الله عمان وحفظ جلالة السلطان.
alikafetan@gmail.com