د. صالح الفهدي
زار المليونير الشرق آسيوي إحدى البلدان وهو يحملُ في يدهِ حقيبةً تضم ما يقاربُ الأربعمائة مليون دولار من أجلِ الاستثمار، التقى عددًا من رجالِ الأعمالِ، وغيرهم من ذوي العلاقةِ في الاستثمار، يقولُ راوي القصة: التقيتُ به بعد ذلك في جلسةِ عشاءٍ، وكلي أمل في أن يبشرني بقراره الإيجابي، ففاجأني بأنه كان يبحثُ عن أصحابِ القرارِ النافذ، أولئك الذين لا يفوتون الفرصة السانحة التي تقع بين أياديهم لأنهم مخولون باتخاذ القرار ثم لأنهم أهلُ كفاءةٍ وجدارةٍ باتخاذه..! يواصلُ محدثي بالقول: للأسفِ اتجه هذا المليونير ليحط رحله في بلدٍ تلتقطُ كل فرصةٍ للاستثمار بسرعةِ القرار وتبسيط الإجراءات..!
القرارُ هو ركيزةُ كل شيءٍ فبهِ يتقدم الإنسان والأوطان وبه يتأخران..! ولا يقيمُ أي قائدٍ أو وزيرٍ أو مديرٍ أو مسؤول بأحسنِ مما يصدرُ عنه من قرارات؛ لأنها تنم إما عن حكمتهِ وحنكتهِ وإدارته الفذة للمسؤولية، وإما عن تهورهِ، وتعسفه، وعدم استشارتهِ لأهل الخبرةِ والرأي الحصيف..!
أما القرار السديد فهو ذلك الجريءُ في طبيعته، ونفاذهِ، المبني على الرؤيةِ الواضحةِ للنتائجِ، المسنودُ بالأسبابِ والمبررات المنطقية، المقنعة. في حين فإن القرار المتهور هو ذلك المهزوز الضعيف البناءِ، غير واضح النتائج ولا المعقبات، وغير المرتكزٍ على قاعدةٍ صلبةٍ من القناعات المنطقية وشتان بين الاثنين..! الأول يؤدي إلى البناءِ والتعميرِ والنماءِ والتقدم، أما الثاني فيؤدي إلى التقهقر، والفشلِ، والضياعِ والتشرذم..!
ولا شكَّ أنَّ أعظمَ ما يحتاجهُ بناءُ الأوطانِ هو القرار الإيجابي الحاسم الذي يدفعها قُدماً نحو التطوير والإعمار والتنمية والتحديث. ولأجلِ ذلك فإنه يتحتمُ على صانعي القرار أن يراعوا جملةَ أمورٍ في اتخاذ القرار السديد ومن ذلك عدمُ المحاباةِ لفردٍ على مصلحةِ وطن وإن كان ذلك الفردُ من المقربين لصانعي القرار. يروي لي كوان يو مؤسس سنغافورة أنه اضطر إلى اتخاذ قرار باستبعادِ أحدِ كبار المسؤولين في حكومته، وقد كان صاحبه ومن المؤسسين لحزبه ورفيق دربه، إلا أنه أعلى المصلحة الوطنية فوق كل هذه الأسباب الشخصية؛ وذلك بسبب بعض السلوكيات الشخصية المشينةِ من ذلك المسؤول فخشي الرئيس أن يضر بتلك السلوكيات الحزبَ والحكومة بل والتوجه العام لبناءِ سنغافورة فأقاله من منصبه الرفيع قائلاً: "إن ذلك كان أصعب قرارٍ في حياتي"..!!
إنَّ ما يُسمَّى بـ"المشكلات المزمنة" هي في اعتقادي بسبب القرارات غير الحاسمة، وغير الجريئةِ لحلها، فيكون ذلك إما بمهادنتها بالمسكنات، أو بالترقيع، فهي مثل المرض الذي تكوى طبقة الجلد فوقه فيفقد طبيعة الشعور بالمرضِ وهو تحته يزدادُ انتشاراً وفتكاً..! لهذا تبقى المشكلاتُ تورثُ من مسؤولٍ إلى آخر كما هي..! إذ إنَّنا نعلمُ عن مشكلاتٍ مزمنةٍ ظلت معلقةً لأزمنةٍ عديدةٍ دون حل ليس لأن الحلول قد نفذت ولكن لأنه لم يتصد لها صاحبُ قرارٍ حازمٍ، حاسمٍ ينهي "مشكلاتها المزمنة"..!
يُذكرني هذا الأمر بحربٍ وقعت في الجاهلية بين قبيلتي داحس والغبراء استمرت زهاء الأربعين عاماً بسبب خلافات على الكلأ والمراعي والماء، أدت إلى قتل الأعداد الغفيرةِ من الطرفين وفي الأخير أقدم شريفان هما الحارث بن عوف وهرم بن سنان فأنهيا هذه الحرب الطويلة بقرارٍ منهما؛ وذلك بدفع ديات القتلى من الجانبين فانطفأت نار حربٍ أحرقت الأخضر واليابس طوال أربعين عاماً..!!
الأمر الذي أجدُ له شبيهاً في عصرنا الحاضر حيث وقعت الحكومة الكولمبية اتفاقاً مع حركة القوات المسلحة الثورية (الفارك) يضع حدا لصراع دموي استمر 52 عاماً، أسفر عن عشرات الآلاف من القتلى والمفقودين والنازحين..!
في المثالين لم يكن للحرب أن تنطفئ إلا بقرارٍ صادرٍ عن صناع قرارٍ واجها النتائج المترتبة بحزمٍ وثبات، ففي المثال الأول دفع الشريفان أموالهما لإنهاءِ الحربِ وإنقاذ أرواح، وفي المثال الثاني واجه الرئيس معارضة الكثيرين من شعبه لهذا الاتفاق ولكن مضاءُ الهمةِ، وقوة الشكيمةِ، وصلابة الإرادة كانت هي عوامل رئيسة لاتخاذ مثل هذه القرارات المصيرية التاريخية في حياة الشعوب والأوطان.
إنَّ أساسَ كل قرارٍ حكيم هو قائدٌ حكيم، ومسؤولٌ حصيف، يمتلك القدرات والإمكانيات والعوامل الشخصية لإتخاذ قرارات ذات أثر ونفوذ؛ فكل إنسانٍ يمتلكُ من الكفاءةِ والقدرات في جانبٍ لا يمتلكها غيره، فإن سُددَ نحو المرمى الصحيح وجدَ لنفسه ميداناً يكشفُ فيه عن قدراته وإمكانياته فأفادَ المسؤولية التي أُنيخت على كواهله، أما إذا اختير لهذه المسؤولية من ليس أهلاً لها فإن قراراته لن تخدم ما ائتمنَ عليهِ من المسؤولية، بل سيعملَ على عكسِ ما هو مؤمولٌ منه ومرتجى..!
ولهذا؛ رفض النبي -صلى الله عليه وسلم- تولية أبو ذر الغفاري -رضي الله عنه- في المدينة قائلا:"يَا أَبَا ذَرَ إنكَ ضَعِيفٌ وَإنهَا أَمَانَةٌ، وَإنهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ خِزْيٌ وَنَدَامَةٌ، إلا مَنْ أَخَذَهَا بِحَقهَا، وَأَدى الذِي عَلَيْهِ فِيهَا".. وفي هذا المعنى يقول شاعرُ العرب الحكيم ابوالطيب المتنبي لسيف الدولة:
إذا أنتَ أكْرَمتَ الكَريمَ مَلَكْتَهُ...
وَإنْ أنْتَ أكْرَمتَ اللئيمَ تَمَردَا
وَوَضْعُ الندى في موْضعِ السيفِ بالعلى...
مضر كوضْع السيفِ في موضع الندى
وإذا عُيِّن قائدٌ أو مسؤولٌ في منصبٍ ما فإن القرارات ستكونُ رهنَ نواياه وميوله وإراداته وعزيمته وأهوائه؛ فإما أن يُفكِّر في المصلحةِ العليا للوطن، فلا يجدُ غضاضة في الإقدام نحو ما يصلحُ وطنه، وتملي عليه المسؤولية الوطنية من عملٍ فيه صلاح مجتمعه، وخير أمته، غير ناظر إلى نفسه في كل ذلك. وإما أن يفكر بأنانية مقيتة في نفسه ومنصبه فلا يتخذُ القرارات الحاسمة لأنه يخشى على نفسه من الإضرار فيؤثر السلامة، ظنا منه أن السلامة هي في الإنكفاءِ والانزواء والتقوقع والمشي في الظل كي لا يحدث ضوضاءَ فتسمعه الآذان، وتبصره الأعين فيفقد مزاياه، ويسقطُ من علياه..!!
لهذا؛ فإنَّ الإنسان والمجتمعات والأوطان عامة رَهْن القرارات التي تصدر، فهي التي توجه دفة الإقدام أو تضغط على مكبحِ الإحجام، بحسبِ النوايا والإراداتِ والإتجاهات لصناع القرارات العليا.. فكم من قرارٍ أضاعَ أمة، وهدم أمجادها، وكم من قرارٍ بناها ورفعَ أركانها.