صالح البلوشي
شهدت الأسابيع الأخيرة من الحرب على تنظيم داعش الإرهابي تراجعا كبيرا لهذا التنظيم في كثير من المناطق الإستراتيجية التي كانت يسيطر عليها، منذ يونيو عام 2014، ففي العراق تم طرد التنظيم من الفلوجة والرمادي وتكريت وهيت وغيرها من المناطق، وبدأت القوات العراقية قبل شهرين هجوما كاسحا على التنظيم المتطرف في الموصل؛ من أجل طرده من معقله الرئيس في العراق، واستطاعت بمساندة قوات الحشد الشعبي والعشائر تحرير مساحات شاسعة من المدينة. أما في سورية فقد استطاع الجيش العربي السوري تحرير 93% من المناطق التي كانت تحت سيطرة العصابات المسلحة في شرق حلب، كما استطاعت قوات سورية الديمقراطية الكردية هزيمة داعش في مناطق أخرى، وشنت هجوما عليها في مدينة الرقة التي اتخذها التنظيم عاصمة للخلافة الإسلامية التي أعلن عنها في يونيو 2014. وأما في ليبيا فقد استطاع الجيش الليبي تحرير مدينة سرت معقل تنظيم داعش في ليبيا. هذه الهزائم الكبيرة هل تنبئ بقرب نهاية هذا التنظيم؟ هل نشهد العام المقبل -الذي سيطل علينا بعد أسبوعين فقط- أفول نجم داعش في العالم العربي؟
ينبغي علينا أولا أن نفصل بين الفكر الذي يؤمن به هذا التنظيم وينطلق من خلاله في ممارساته، وبين التنظيم السياسي/ الديني الذي استطاع أن يجمع آلاف البشر من جنسيّات مختلفة تحت لواء فكر واحد، فالتنظيم بدأ فعلا بالضعف والتقهقر بفعل الضربات المتوالية التي يتعرض لها منذ أكثر من سنة، سواء بواسطة القصف الجوي من قوات التحالف الدولي أو الجيشين السوري والعراقي والفصائل المسلحة المساندة لهما، ولم يستطع السيطرة على أية أرضٍ جديدة منذ عدة أشهر، بل بدأ يفقد أراضٍ مهمة، وربما سيتجه بعد هزيمته في العراق وسورية إلى أماكن أخرى، كما توقع ذلك وزير الدفاع الإيراني حسين دهقان، كما صرح بذلك إلى وكالة تسنيم الإيرانية يوم الأحد الماضي 11 ديسمبر، حيث قال: "إنّ هناك شواهد وأدلة تؤكد أن تنظيم داعش الإرهابي سيتوجه إلى ليبيا وحدود الأردن أو مناطق آسيا الوسطى بعد تلقيه الهزائم في العراق" ولكن ماذا عن البنية الفكريّة للتنظيم أو الخطاب الذي يتبناه فهل سيختفي بهزيمة التنظيم؟ أم يفرخ تنظيمات أكثر تطرفا وعنفا في المستقبل؟ جميعنا يذكر تنظيم القاعدة الذي كان يمثل أقوى تنظيم إسلاموي مسلح طوال ثلاثة عقود متتالية، إلا أنّه مع هزائمه المتكررة وقتل قائده أسامة بن لادن في يونيو 2011 ضعف كثيرًا ولكن ذلك لم يمنع من ظهور تنظيم داعش الأكثر إرهابا وتطرفا وإجراما منه، بل إنّ من يقارن بين جرائم القاعدة مع جرائم داعش يجد أنّ تنظيم القاعدة يعدّ معتدلا.
إنّ خطورة تنظيم داعش وأمثاله من الحركات الإسلاموية المتطرفة لا تكمن في إرهابها الدموي فقط؛ إنما في بنيتها الفكرية التي تستند على قراءة متطرفة للتراث الديني الذي يبرر لها القيام بأعمالٍ إرهابية باسم الدين؛ إذ أنّ التراث الديني مليء بالفتاوى التكفيرية التي تكفر الآخر وتهدر دمه وتصفه بالكفر والضلال، فداعش لم تأتِ بفكر جديد إنما طبقت بشكل متشدد فكرًا كان موجودًا في التراث الديني، وهذا الفكر كان قد ظهر بشكل متطرّف في القرن الثامن عشر عندما ظهرت دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب في نجد، وفي العصر الحديث ظهر في مصر على يد سيد قطب في كتابه "معالم في الطريق" الذي وصف فيه المجتمعات الإسلاميّة بالجاهلية حيث قال في الصفحة رقم 19 من الكتاب: "نحن اليوم في جاهلية كالجاهلية التي عاصرها الإسلام أو أظلم. كل ما حولنا جاهلية.. تصورات الناس وعقائدهم، عاداتهم وتقاليدهم، موارد ثقافتهم، فنونهم وآدابهم، شرائعهم وقوانينهم، حتى الكثير مما نحسبه ثقافة إسلاميّة، ومراجع إسلاميّة، وفلسفة إسلاميّة، وتفكيرًا إسلاميا، هو كذلك من صنع الجاهلية"، ثم في السبعينيات ظهرت حركات متطرفة أخرى وساعد على ظهورها سياسة الرئيس المصري الأسبق أنور السادات الذي كان يهدف من ذلك توظيفها في معركته ضد اليساريين والشيوعيين في مصر، وينقل القيادي الإخواني السابق مختار نوح في كتابه "موسوعة العنف" ص 324: "وقد أفضى إلينا الدكتور أسامه الباز -رحمه الله- في أحد اللقاءات أنّه نبّه الرئيس السادات لخطورة ما يفعله وقال له: "إنّ نهايتك ستكون على يد هؤلاء "، مثل حركة الفلسطيني صالح عبدالله سرية صاحب كتاب "رسالة الإيمان" التي اقتحمت الكلية الفنية العسكرية، ثم ظهرت حركة "التكفير والهجرة" بزعامة شكري مصطفى التي دعت إلى تكفير المجتمع والتكفير بالمعصية، ثمّ قامت باختطاف واغتيال وزير الأوقاف المصري الأسبق الشيخ محمد حسين الذهبي سنة 1977، ثم ظهر تنظيم الجهاد وكتاب "الفريضة الغائبة" للمهندس محمد عبد السلام فرج الذي لقى إقبالا كبيرا من أصحاب الفكر المتطرف، واغتيال الرئيس المصري الأسبق محمد أنور السادات بيد هذا التنظيم سنة 1981، وأمّا في الخليج فقد انتشرت في نهاية سبعينيات القرن المنصرم رسائل جهيمان العتيبي الذي كفر فيها جميع الحكومات الإسلاميّة ودعا إلى محاربتها بالقوة ثم قام مع أتباعه باحتلال الحرم المكي في أول محرم سنة 1400 هجرية.
من هذا السرد المختصر لتاريخ ظهور الفكر المتشدد في العالم العربي يتبين أنّ هناك جماعات كثيرة ظهرت قديما وحديثا وتحمل فكرا تكفيريا متطرفا، ثم اختفت بفعل الضربات الأمنية المتلاحقة، ولكنها عاودت الظهور مجددًا بمسميّات أخرى أكثر تشددا وتطرفا وانغلاقا؛ لأنّها لم تتعرض لأي نقد وتفكيك لبنيتها الفكرية، وأبرز مثال على ذلك اليوم هو تنظيم داعش، فرغم إدراك العالم خطورة هذا التنظيم الذي احتل في فترة زمنية قياسية محافظات بأكملها في سورية والعراق، وقام بأعمالٍ إرهابية في السعودية والكويت ومصر وليبيا اليمن وغيرها إلا أنّه لم يتعرض لأي نقد فكري سوى تكرار بعض الكلمات الرنانة: أنّ داعش لا يمثل الإسلام؛ ولذلك فإنّه لا يمكن التخلص من داعش والتنظيمات المتطرفة إلا بتفكيك بنيتها الفكرية اللاهوتية التي تقوم عليها والعودة إلى قيم التسامح والتعددية الدينية التي دعا إليها القرآن الكريم.