مراكز الدراسات الإستراتيجية الوطنية والضرورة الملحة

 

 

حمد بن سالم العلوي

إنَّ دول العالم المُتحضر، لا تتخذ قراراتها المهمة بشكل عشوائي، وإنِّما تقلب الأمور وتمحّصها كثيراً قبل ذلك، وهي تعتمد كذلك على مراكز الدراسات المتخصصة، وتلك المراكز تجد دعماً حكومياً مجزياً، وذلك لما تُقدمه من بحوثٍ ودراسات مُتعمقة في كافة المجالات الحياتية، فهذه الدراسات تساعد على اتخاذ القرارات السديدة، وليس ذلك فحسب، وإنما تراقب اتجاهات المجتمعات وسلوكياتها، وتدرس الظواهر الاجتماعية التي تنشأ على هذه المجتمعات كذلك، وتوصي بالمُعالجات الضرورية لتقويم بعض السلوكيات السلبية، ولا تنتظر حتى تتفاقم الأمور ويصعب عند ذلك العلاج، لأنّ السكوت أحياناً يُفاقم الحالة فتجنح بعيداً عن شط الأمان، فوقتئذ تضطر الدولة إلى ملاحقة الأزمات بالعلاج، وحينها يكون العلاج أكثر كلفة مالية وجهداً، من لو أنه خطط لعلاجه في الوقت المُناسب للعلاج، وقبل فوات الأوان، ومعظمنا ذهب لحضور دورات في البلدان المُتقدمة، ورأى بأم عينه تلك المراكز الدراسية، وعرف أدوارها الإستراتيجية.

لقد ظلت بلاد العرب تفتقد إلى مراكز الدراسات إلا فيما ندر، وما وجد منها إلى الآن هي لتوجيه الأذى، ومكائد الحسد للجيران، وهذا الأذى لا يخرج عن مُحيط الدول العربية، وبهدف عرقلة التَّقدم والتطور، وتقويض الأمن والاستقرار، وهناك بلدان عربية ما تزال تعيش بؤساً سببه العرب أنفسهم، ونحن على سبيل المثال، نتلقى سيلاً منسقاً من الشائعات المُغرضة والهدامة، فبعضها يأتي معسولاً فينطلي على الإنسان البسيط، خاصة إذا ما غلّفت ببعض المديح والإطراء، فالبعض يطربه أن يسمع الإطراء المعسول، برغم أنه هو نفسه لم يفعل شيئاً يستحق أن يمدح عليه، وهناك شائعات تأتي فجَّة ودون مُقدمات، ومرسلها يتحيَّن لها الظرف المواتي للدفع بها، لكي تتغلغل في غمرة الزحمة والفرح، ليُفسد على النَّاس فرحتهم.

وهنا نضرب مثالاً بآخر شائعة وصلت إلينا عبر "الواتساب" وهي بالطبع لن تكون الأخيرة، لقد نُشر مخطط لمُنتجع سياحي في مسقط، وألحق به تعليق يُحدد صاحبه، ويفصل غايته منه، ألا وهو البيع بمبلغ كبير، ولو أني لا أعرف تلك الشخصية التي نسب إليها ذلك الزعم المُغرض، وأعرف خلقها وأدبها، وأعرف أيضاً أنَّ الأخلاق سجية حسنة، والفساد سلوك مذموم مُشين، وأعلم أن هاتين السمتين لا تجتمعان معاً، لربما صدقت الشائعة، فأعددت تحذيراً أتصدى لتلك الشائعة، لأنني أجزم أنَّها كاذبة، فكلما أوردت في مجموعة من المجموعات، اتبعتها بذلك التحذير، وما هي إلا دقائق حتى عمَّت الشائعة كل المجموعات التي أنا عضو فيها، وحتماً ستكون في مجموعات أخرى كثيرة، والبعض أخذ يُرسلها على الخاص لقناعته بصدقها، فأرسلتها إلى بعض الأصدقاء، ليس لأنني مصدق ذلك، ولكن متسائلاً، هل من سبب يجعل هذه الشائعة تنتشر الآن، وبهذا الاهتمام الكبير بين الناس، وكأنَّ هناك كارثة ستحل بالوطن فوجّب الإسراع في التحذير منها، فكان الرد لا سبب لهذه الكذبة الرخيصة.

إنَّ الذي يُراقب هذه السلوكيات الخاطئة، لا يعرف ما الذي يدفع بالناس إلى جعل كل شائعة ترد في "الواتساب" ينظر إليها على أنّها حقيقة دامغة لا تستحمل النقاش، وإن الناس يجدون ميلاً شديداً في بُغض الحكومة، والتشكيك في مصداقيتها، وتصديق كل ما يقال عنها دون تردد، فيصدقون الشائعة ويبررونها، فتصبح الحكومة في محل اتهام على الدوام، هذا من وجهة نظر البعض على الأقل، وما يؤكد هذا، اصطفافهم مع أية وجهة نظر يقولها معارض ناكر، ومهما كان تعارضه يمثل وجهة نظره الشخصية وحدها، فتجد البعض يُعلق ويزايد على كلامه، ودونما خوف من إثم لقول زور، فيصبح الخوف من الله مغيباً مع غياب الضمائر.

ترى، ماذا لو كان لدينا مراكز دراسات إستراتيجية وطنية للدراسة والبحوث المتخصصة؟ هل سيكون باستطاعتها أن تمحص مثل هذه الحالات؟ وذلك بوضعها تحت المجهر الدقيق، وكيف يمكن لها أن تضع هذا التعارض بين بعض الناس والحكومة تحت الاهتمام؟ وتحديد أسباب الفجوة الحالية بينهما؟ وهل من الضرورة بمكان أن نهتم بهذه الحوادث العارضة؟ أم نتركها لتموت من تلقائها؟ لكن هل سيتركها مرسلها تموت دون أن تحقق هدفها الأساسي؟! طبعاً لا لن يتركها تندثر دون نتائج رسمها لها، إذن لا بد من التدخل بالعلاج والتصدي الدفاعي لها، خاصة في ظل سياسة الحكومة التي تفضل اللواذ بالصمت، فلتستمر في صمتها، ولكن تترك لقنوات متخصصة الرد عليها بصفتها الوطنية.

إذن، لقد حان الأوان لفعل شيء يحفظ البلاد من أي مساس بأمنها القومي، خاصة وأنّ الوطن أصبح يضم أجيالا كثيرة من المتقاعدين الأكفاء، وهم من أصحاب الخبرة والدراية في كل الأمور، فهناك ما يوازي ثلث السكان يجلسون في بيوتهم اليوم، وكأنهم ينتظرون ريب المنون، ليذهبوا بكنوز المعرفة والخبرة والدراية إلى دار الآخرة، وهم يصطحبون في عقولهم ذروة الخبرة ومكنونات المعرفة.

إنّ جيل المُتقاعدين يضم اليوم، الوزراء والوكلاء من المُتقاعدين وهم ليسوا بالأشخاص العاديين، وكبار القادة العسكريين والأمنيين، وجميهم يشهد لهم بالنجاحات في العمل السابق، يوم كانت الظروف صعبة مع بزوغ فجر النهضة العُمانية المُباركة، وهناك أيضاً الأطباء والمهندسين والمحامين والدبلوماسيين، والصحفيين والإعلاميين، وكل التخصصات الأخرى من مختلف الجهات وليس من القطاع الحكومي وحسب، وكلهم محل تقدير واحترام، وسيعطون استشاراتهم من عصارة فكرهم الوطني العُماني، ولن يبخلوا على الوطن بشيء.

ولكن الأمر يحتاج إلى بعض المُبادرات، والدعم الرسمي والمالي والفني، وستجري السفينة على بحار من العلم والمعرفة، كل في مجال اختصاصه، وحسب قدراته الذهنية، وإمكانياته الصحية والبدنية، والمُتقاعد اليوم لا ينظر إلى الوظيفة والعمل، وإنما ينظر إلى الرأي والاستشارة، وفي هذا تقدير وثناء لتاريخه الوظيفي، وحفظًا لمقامه وكرامته من تعسف رب عمل في تقيده وتوجيهه، بعدما كان الآمر الناهي في وظيفته السابقة، فهلاّ كسرنا الحاجز النفسي، وفتحنا باب الاستشارات في قوالب دراسية علمية، بحيث ترفع من شأن الوطن، وتُعزز من قدراته الإنتاجية، وتحصن جبهته الداخلية، وذلك بالمزيد من البذل والعطاء، والمتقاعد يجد في ذلك تشريفا وتقديرا، بعدما عانى من التهميش والإهمال، نتيجة غفلة الناس المتمترسين خلف كراسي الوظيفة.

Safeway.om@gmail.com