تفعيل فقه المقاصد الشرعية

د. يحيى أبو زكريا

قال الله تعالى: "وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ..." (لقمان: 19)، وقال النبي الكريم: "القَصْدَ القَصْدَ تَبْلُغوا" (أخرجه البخاري)، وقال جابر: "كُنت أصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم فكانت صلاتُه قَصْداً وخطبتُه قَصْدًا"؛ أي وسطاً بين الطويلة والقصيرة، (أخرجه مسلم).

والمقاصد جمع مَقصَد، مصدر ميمي مأخوذ من الفعل قَصَدَ. قَصَدَ يقصدُ قَصْداً ومَقْصَداً وقَصْدٌ أو مَقْصَدٌ معنى واحد.

ويقوم النظر المقاصدي على الموازنة بين ظاهر النصوص ومقصودها (بين المباني والمعاني) وفقا لميزان الشرع. فالشيخ مُحمَّد الطاهر بن عاشور أحد واضعي علم المقاصد الشرعية يقول: "هي المعاني والحكم الملحوظة للشارع في جميع أحوال التشريع أو معظمها". أمَّا الشيخ علال الفاسي: "المراد بمقاصد الشريعة الغاية منها والأسرار التي وضعها الشارع عند كل حكم من أحكامها". وبعبارة علمية رياضية، فإنَّ مقاصد الشريعة الإسلامية هي عقلنة الشريعة الإسلامية وإيجاد ملازمة بين النص والعقل، والتأكيد على أنَّ الأحكام الشرعية لا تتضارب مع مصالح الإنسان في الأبعاد السياسية والاقتصادية والثقافية والمجتمعية والإستراتيجية؛ فالشريعة الإسلامية لا يُمكنها بحال أن تصدم الإنسان وتلغيه كمحرك لحركة التاريخ، والشريعة كُرِّست لإراحة الإنسان مُطلق الإنسان وليس لتعذيبه أو إلغائه واستئصاله، ويُبيِّن ذلك القرآن الكريم في آياته: "... يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ" (البقرة:185)، و"يُرِيدُ اللّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ" (النساء:28)، و"وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج" (الحج:78)، و"إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ" (العنكبوت:45).

وفي هذا السياق، يقول العز بن عبدالسلام في "قواعد الأحكام": "لو تتبعنا مقاصد ما في الكتاب والسنة لَعَلمْنَا أن الله أمر بكل خير... وزجر عن كل شر... فإن لخير يُعبر به عن جلب المصالح ودرء المفاسد، والشر يُعبر به عن جلب المفاسد ودرء المصالح"، ويقوم فقه مقاصد الشريعة الإسلامية على حفظ النفس والمال والدين والنسل؛ وأبرز مَنْ كَتَب فيها: الشوكاني وابن عاشور في كتابه "مقاصد الشريعة"، ونور الدين الخادمي في كتابه "مقاصد الشريعة"، وأبو عبد الرحمن الأخضر الأخضري في كتابه الامام "في مقاصد رب الأنام"...وغيرهم، ومما قاله الشيخ محمود شلتوت: نعم لم ينكر اللهُ على أحدٍ من خلْقه ابتداعَ شيء من مُتَع الحياة الطيِّبة، ولا من وسائل قوَّتها واتِّساع عمرانها، وإنما كان الذي أنكره ابتداعَ الناس فيما بيَّن ورسَم، وتعبَّد به عباده في العقيدة والعمل، والحِل والحُرمة.

في كتابه الذي يحمل عنوان "الفتوحات الإسلامية في فرنسا وإيطاليا وسويسرا في القرن الثامن والتاسع عشر الميلادي"، كتب الكاتب الفرنسي جوزيف رينو بأنّه لو قدر لموسى بن نصير ولطارق بن زياد ولعبدالرحمن الثالث أن يعودوا إلى الحياة لاندهشوا لتغيُّر ميزان القوة بين المسلمين والمسيحيين. هذا الكلام لجوزيف رينو يشخِّص الحالة الراهنة التي عليها العالم الإسلامي؛ حيث بُعد المسافة بين المليار والمائتين ألف مسلم، والمشروع النهضوي الذي تتحدَّث عن تفاصيله النخب العربية والإسلامية منذ أزيد من مائة سنة.

والسؤال الرئيس الذي يُمكن طرحه في هذا السياق؛ هو: لماذا تأخر المسلمون في تحقيق نهضتهم رغم أنهم يملكون ثروة فكرية وثروة طبيعية لم تجتمع لكثير من الأمم التي نجحت في إطلاق نهضتها ومكنت الأجيال الراهنة من الإستفادة من عطاءاتها. وفي مجال آخر، كان الدكتور علي شريعتي يطرح مقولة "إسلام بلا رجال دين أو بلا مؤسسة دينية". وهي المقولة التي أثارت غضباً عاماً ضده في الأوساط الدينية.

الحديث عن العقل الإسلامي وبنيويته وماهيته المعرفية والإبستمولوجية وحدوده والمساحات التي ينطلق في فضاءاتها هو حديث تشوبه الكثير من الإشكالات والتصادم النظري والفكري؛ لأنَّ العقل الإسلامي ظل منطقة فراغ في حركة المعرفة الإسلامية، وجمد بالكامل لحساب النص والظاهر والذي إتبعه قوم حذو القدة بالقدة، وعلى الرغم من دعوة القرآن المسلمين إلى ضرورة إعمال العقل والتفكير واللب في آيات تترى، واعتبار الإسلام أن الطريق إلى الله يتم عن طريق العقل والتفكير لا عن طريق التقليد؛ فإنَّ حركة العقل توقفت لحساب تمجيد الثقافة اليونانية حتى قال البعض إنَّ المسلمين لم ينتجوا معرفة عقلية إسلامية بل ترجموا العقل الإغريقي واليوناني إلى اللغة العربية، ومع موت ابن سينا كانت حركة العقل قد توقفت.

وعندما اختفى العقل وظهرت الأسطورة والخرافة والتأويل الخاطئ والمتعدد للنص، بدأ الانحدار الحضاري في العالم الإسلامي واختل التوازن بين الشرق والغرب.

وعندما تحولت أمة اقرأ من أمة اقرأ إلى أمة اذبح، وأمة اذبح إلى أمة اقرأ، اختل التوازن بين الحضارة الإسلامية والحضارة الغربية؛ فتلاشت الأولى وانطلقت الثانية، وفي الوقت الذي توجَّه فيه العقل الإسلامي إلى الماضي والنص متعدد التأويل وليس إلى الإسلام المحمدي الأصيل، فقدنا أهم مقوِّم للنهوض الحضاري وهو قوة العقل ورزانته؛ أثناءها توجه العقل الغربي إلى المستقبل والاستدلال العلمي والاستقراء المعرفي.

وما لم يعيد المسلمون الاعتبار للعقل؛ فإنَّ جنون الموت ومهرجان القتل ونوستالجيا تخريب الدول والمجتمعات، ودراما التفخيخ والتفجير والنحر والكراهية والبغضاء ستصبح الأكثر عقلانية في عالم إسلامي أول ما أعدم فيه هو العقل.

[email protected]