النفط.. أسعار لن تعود

 

حاتم الطائي

تتزاحم سُحب الغموض في سماء فيينا قبل يوم واحد من التئام اجتماع مصيري للدول الأعضاء بمنظمة أوبك، يُنتظر أن يتحدَّد بناءً على مُخرجاته مُستقبل النفط عالميًّا؛ إذ يحبس الجميع أنفاسه ترقبًا لتصويت كبار المنتجين على قرارات تمَّ التوافق عليها سبتمبر الماضي فى اجتماع تشاوري بالجزائر، واقتضتْ حينها تخفيض إنتاج المنظمة إلى 32.5 مليون برميل يوميا، من مستواه الذى يقارب الـ33.24 مليون برميل، وتحديد سقف إنتاج مُحدَّد لكل دولة؛ بهدف القضاء على تُخمة المعروض المقدَّر بـ2 مليون برميل يوميًّا، ودعم الأسعار التي تتأرجح على وقع خلافات سياسية تعكِّر صفو أي اتفاق، ونوايا مُضمرة لتثبيت حصص إنتاج غير متكافئة في الأساس، فضلا عن سياسة "الباب المفتوح" التي تمكِّن النفط الصخري من اعتلاء الصدارة متى ما لامس سعر الخام حاجز الـ55 دولارًا؛ خصوصا وأنَّ تكلفة إنتاج "الصخري" لا تتعدى الـ60 دولاراً، ومن الأكيد أنها ستنخفض أكثر خلال الأعوام المقبلة بتقدُّم تكنولوجيا إنتاجه.

ليبقى مستقبل أسواق النفط بالعالم رهينَ عدَّة نبوءات لا تألو جهداً في ملامسة كل الأبعاد والفرضيات المحتملة؛ فلا شيء مُستبعد بداخل أهم شرايين الاقتصاد العالمي ومحركها الأول، فما بين الأسس الجيوسياسية -"المتهم" الأول لدى خبراء الأسواق- وتداعيات الأسواق اقتصاديًّا، تدور رحى كافة التحليلات والتفنيدات؛ وتبقى فرضية أنَّ أسواق الخام مقبلةً على تغييرات كبيرة خلال الفترة المقبلة، تفرض نفسها على أي سياق يتناول الأزمة؛ خصوصا في الفترة الرئاسية الجديدة للرئيس الأمريكي دونالد ترامب؛ الذي هدَّد صراحةً بإعادة النظر في الاتفاق الأمريكي الإيراني، ملوِّحاً بعصا العقوبات من جديد، وهو ما سيكون له بلا شك كبير الأثر على أسواق الطاقة إن تم تطبيقه فعليًّا على أرض الواقع.

كما أنَّ عدم حضور المملكة العربية السعودية -أكبر منتج للخام في العالم- اجتماع فيينا، ومطالبتها بالاتفاق أولاً بين أعضاء المنظمة على خفض الإنتاج، يضع عَرَبة جديدة أمام الحصان، خصوصا إذا ما قُرئ هذا التغيُّب في سياق المشكلات التي واجهتها أوبك -ولا تزال حقيقةً- للتوصل إلى اتفاق يُقيِّد الإنتاج قبل الاجتماع لإبرام اتفاق أوسع نطاقا يتمتَّع بالمصداقية، وبأرقام واضحة ونظام تصدِّقه السوق العالمية، سيما مع رغبة المنظمة في أن يقوم المنتجون غير الأعضاء مثل روسيا بخفض الإنتاج، وهي الفرضية التي ربطتها موسكو بالتدرُّج أولاً، وتوصُّل دول أوبك لاتفاق تقليص الإمدادات ثانياً.. يُضاف إلى كل ذلك الانتكاسات التي تواجهها الجهود الدبلوماسية المكثفة -منذ سبتمبر على أقل تقدير- لدعوة العراق إلى إعفائه من الاتفاق، ومن قبل إيران التي ترغب في زيادة حصتها؛ لأن إنتاجها تضرر بسبب العقوبات؛ ليبقى مستقبل النفط يدور في عِدَّة حلقات مفرغة، إحداها تُسلِّم الأزمة للأخرى، لكنَّ اليقين الوحيد أنَّ الأسعار لن ترتفع في المنظور القريب.

إنَّ الأبعاد السياسية لأزمة انهيار أسعار النفط والآخذة في التشعُّب والتشابك، تُضعف هي الأخرى حجم الآمال المعقودة على النتائج التي سيتمخض عنها الاجتماع -إذا خرج بالأساس بنتائج مُرضية- خصوصا بعدما بات النفط أحد الوسائل المستخدمة في هذه اللعبة، بل وأكثرها فاعلية، ويتم استخدامه ويخضع في تسعيره من قبل الدول الغربية إلى كلِّ ما من شأنه خدمة مصالحها وإستراتيجياتها في الهيمنة والنفوذ من جهة، وإضعاف الدول المنتجة من جهة أخرى.. والأمثلة واضحة وماثلة للعيان؛ فالعقوبات الاقتصادية على إيران -والتي يُمثل النفط المستهدف الرئيسي بها- تقف دليلا على ذلك، وكذلك الحال بالنسبة للعقوبات التي وُقِّعت على روسيا مؤخرًا، كان النفط حاضرًا فيها أيضا وبقوة، مما ألحق أضرارًا كبيرة بالاقتصاد الروسي، بهدف حَسْر دورها السياسي الذي بدأ يتعاظم بشكل كبير في الفترة الأخيرة في ظل قيادة بوتين "الحالم دائمًا باستعادة زعامة القوة العظمى". وإذا ما أخذنا في الحسبان زيادة إنتاج أمريكا من النفط الصخري -والذي وصل إلى أربعة ملايين برميل يوميًّا- ودخول واشنطن نادي الدول المصدِّرة للذهب الأسود بعدما فاضتْ حُقول تكساس بإنتاجها الوفير، فإنَّه من الممكن القول بأننا أمام حرب اقتصادية من الدرجة الأولى، حرب غير مُعلنة، ستطول ألسنة نيرانها في المدى البعيد كافة الدول المنتجة للخام، والتي ستجد نفسها في نهاية المطاف واقعة تحت تأثير هذه الحرب.

... إنَّ مُجمل الوقائع والتحديات التي تتجاذب أسواق النفط اليوم وتتحكَّم بها، لم تعد خافية على أحد، بل تتحدَّد وفق أهواء جُملة لاعبين مُختلفين وقائمة مُستفيدين تطول؛ في شبكة من المصالح تتوسَّع دائرتها يومًا بعد آخر، وتدار بالريموت كنترول من لندن وحتى نيويورك؛ لذا يُخطئ من يعلِّق آماله ويبني أحلامه على أنَّ غاية الخلاص مُعلَّقة برقبة "اجتماع الإثنين"، بل هي دعوة للتعافي من سَكْرَة "الحلول السحرية" إلى حيث الخطط والخيارات الأكثر مواكبة للتطبيق على أرض الواقع، وتفعيل مبدأ "التنويع" بمفهومه الشامل؛ كأحد أهم الإستراتيجيات التي تضمن فكاكاً من فخِّ اللوبيات، أو على أقل تقدير الخروج منها بأقل الخسائر.