أحفاد الإمبراطورية

 

 

حمود بن علي الطوقي

في العيد الوطني السادس والأربعين المجيد، حين أطلَّ مولانا حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم - حفظه الله ورعاه - وهو يرى ثمار الغراس التنموي والتاريخي شاخصًا بجماله وامتداده أمام ناظريه، وتاركًا في وجدان العمانيين ذلك الشعور العميق بالإيمان الصادق النَّابع من صناعة المجد، حضر إلى الذهن أنّ ذلك التاريخ الإمبراطوري الموغل في القدم، يعود من جديد، خاصة وأنَّ العالم كله، من أقصاه إلى أقصاه، يموج في صراعات وخلافات وحروب تتجلى هنا الحنكة والحكمة والهيبة والسلام، ترى عُمان في شخص قائدها وسلطانها، ترى الروح التي لا تدخل في عالم فُرقة إلا سدّت وجمعت ولطفت الأجواء بين الأطراف المختلفة، بلغة الإيمان المؤمن بالسلام ..

لقد حفرت الإمبراطورية العُمانية، التي تأسست على يد الإمام أحمد بن سعيد - رحمه الله - وامتدت في التَّوسع والامتداد حتى بلغت شرق إفريقيا على يد السلطان سعيد بن سلطان - غفر الله له - ناشرا رايات عُمان في مجاهل البحر ومفاوز البر، ناشرا الإسلام والأمان والطمأنينة، وباعثا مشهد القوة الذي يليق بإمبراطورية تسيّدت البحار، وصارت موئلاً للحضارة التي قدمتها عبر السواحل الطويلة ..

 

 

هذا المد الإمبراطوري يعود من جديد، يعود على يد المقام السامي لصاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم - حفظه الله - من خلال هذا الذكر الطيب، والدهاء السياسي، والحكمة البالغة الأهمية، والسلام الذي يمد جناحيه فينشر الظل والأمان، هذه الإمبراطورية تعود ريح عصرها، وروح كينونتها، ومهارة تأثيرها، ونبل مقاصدها من جديد..

 

في ذلك الوقت، حين كان المد يصل إلى أقاصي دول شرق إفريقيا، إلى زنجبار وما خلفها، إلى دول البُحيرات العظمى (رواندا وبوروندي وزائير وكونجو)، كان العمانيون يذهبون مشمولين بالسلام والبحث عن الرزق الحلال، يأخذون عائلاتهم ويستقرون هناك، يفتحون أبواب الرزق لهم ولغيرهم، فطاب لهم المُقام، وصارت لديهم الحياة المستقرة، والتجارة التي تقيهم الحاجة والفاقة والسؤال؛ وقد امتد الوقت، فانقلب الحال إلى غير ما كان عليه، وتبدل النَّاس، وهاجر من هاجر، وبقي من بقي، ثم اشتدّ البأس، حتى تقطعت السُبل، وما عاد حبل الواقع السري يصلهم بالوطن والأهل ورائحة التراب، وبقيت عروبة اللسان والذاكرة هي الخيط الذي يتمسك بالأمل، لعله يشرق يومًا ما ..

 

العمانيون، في تلك المجاهل، بعيدون، والصلة التي يمكنها أن تُعيدهم هي استرجاع جنسيتهم الأصلية بدلاً من أن يعيش أحفاد الإمبراطورية العمانية غرباء في تركة إمبراطوريتهم، ومقصيين عن مواطنهم في عُمان بعيداً، من غير حول منهم ولا قوة ..

 

لعل من بين الأسباب هو استمرار الرغبة في تأكيد التجذير العماني هناك، ولكن الدول في الشرق الأفريقي لديها قانونها ورؤيتها، فلا يبقى فيها من لا يملك ثبوتيات ولا جنسية، والأسر فاقدة المعيلين عليها أن تدفع الثمن، وغالبا يكون بالملاحقة أو السجن أو الزواج من بني جلدة ذاك المكان، لضمان إقامة تقيهم التعب والنَّصب والشتات...

 

لا بأس في أن يتم تجذير العمانيين والعمانيات هناك، جيد أن يظل الأحفاد في أماكن إمبراطوريتهم القديمة، لكن بقليل من المساعدة، كأن يتم دعمهم بثبوتيات لشخصياتهم، وأن يتم دعمهم عبر الزكوات والصدقات، فهم أولى، أو يتم دعم موارد رزقهم حتى لا تضطرهم الظروف إلى مد اليد أو العيش على الكفاف أو تصدق الغير عليهم بكسرات الخبز والفتات، قليل مما يقيهم من الموت والغصة في قلوبهم بأنهم لن يموتوا أو يدفنوا في أرض أهاليهم، حيث أسرهم وعائلاتهم..

 

إحداهنّ، وهي عُمانية طاعنة في السن تداولت شبكات التواصل الاجتماعي حالتها وتدعى ريا بنت خليفة الشرجية من بلدة الوافي بوادي عندام زارها بعض العمانيين، في أوغندا وهي إحدى دول البُحيرات العظمى، تسكن في كوخ بنظام الغابات الإفريقي، لكنتها التي تربطها بالوافي التابعة لعندام في ولاية المضيبي، لا تزال حية، وقد بلغت من الكبر عِتِيّا، جاءت برفقة والدها لطلب العيش، وامتد بها العمر لتبلغ حوالي 100 عام، بعد أن تزوجت هناك، ودفنت والدها الراحل تحت شجرة خضراء، وبحركتها التي تخفي ملامح قرن من العمر، لا تخفي رغبتها في أن تدفن في عُمان، وفي الوقت، تعيش على هبات وصدقات الأشجار مما تجود به الغابة، وحيدة برفقة ابنتها؛ هي نموذج للعماني الذي لم تفلح السنوات والمغريات في جعله يفقد جمال لغته ولكنته، هي أيضًا، وأمثالها كثر، يحتاجون تلك الروح التي تثبّتْهم بأرض الميلاد، بالتراب الذي يحضن الشجن، وإن في أرذل العمر ..

يستحقون المساعدة، يستحقون العون، يستحقون إثبات من هم حقًا، يستحقون ذلك، فهم، وتشي بذلك لكنتهم وطريقة كلامهم وعاداتهم وأساليب عيشهم، ما كان لها أن تكون على ما هي عليه إذا لم تكن لديهم ذاكرة تجول في الذهن، وخارطة عودة بلا ملامح، على الأقل إن لم يعودوا، لا من زنجبار ولا رواندا ولا زائير ولا بوروندي ولا الكونغو، فلنبقهم صامدين، ولنشعرهم بأنهم عمانيون وحسب ..

الأكثر قراءة