مرتضى بن حسن
appleorangeali@gmail.com
ذكرتُ في مقال سابق أنَّ "الثورة التكنولوجية التي تكتسح العالم، تُمثِّل بداية حقبة تاريخية غير مسبوقة في تاريخ البشرية، والتي سوف تؤدي إلى إحداث تغييرات واسعة في أنماط الحياة والعادات وفرص العمل والإنتاج". وفي مجال فرص العمل، فإنَّ هناك وظائف كثيرة سوف تختفي، ووظائف عديدة سوف تظهر، والتي يجب أن نتبه إليها ومنذ الآن.
وعلى الصعيد الزراعي -على سبيل المثال وليس الحصر- فإنه ونتيجة للتقدم الكبير الذي حدث في مجال التكنولوجيا الحيوية، والذي تمخض عنه إنتاج سلالات جديدة أكثر تطورا، يتم إنتاج أنواع جديدة من الأرز المهجَّن الذي يتمتَّع بقدرة أعلى في مقاومة الأمراض والحشرات وزارعته في المياه المالحة. ولم يرتق المحصول من حيث النوع فحسب، بل إنه ازداد من حيث الكم أيضا بين ضعفين إلى أربعة أضعاف مستوى الإنتاج السابق. وتشكل البحوث العلمية حول السلالات الجديدة -التي هيأتها مراكز البحوث الزراعية الدولية المتقدمة- مجالا راقيا في مجال البحوث والعلوم الزراعية التطبيقية.
وتستطيع الإنجازات الحيوية العلمية الكبرى أنْ تقدم المساعدة في حل المشاكل المرتبطة بالجفاف وقلة المياه وتدني جودة التربة، إضافة إلى عدم كفاية الأراضي الصالحة للزراعة. وباختصار شديد نقول: إنَّ الفقرَ الزراعيَّ لدينا وفي بلدان عديدة لا يمكن أن يُعالج بالإصلاحات الفنية أو بالقرارات الإدارية، ما لم يتم معالجة الجوانب الهيكلية والثقافية من المشكلة الزراعية. وحيث أخفقت الحلول الأكثر تقليدية في حل المعضلة، تركَّز الاهتمام في العقود الأخيرة على التكنولوجيا الحيوية باعتبارها حلًّا مُمكنا. ويقصد بالتكنولوجيا الحيوية أية طريقة تستخدم أعضاء حية أو تلجأ لمعالجات معينة لإيجاد أو تعديل المنتوجات ولتحسين سلالات من الحيوانات والنباتات أو لتطوير أعضاء حية دقيقة بغية استخدامها في أغراض محددة.
وتعتبر التكنولوجيا الحيوية ثمرة للإنجازات العلمية الكبرى التي حقَّقها العلماء منذ خمسينيات القرن الماضي لسبر الأغوار الجينية. وغدا بإمكان مهندس الوراثة حقن جينة جديدة داخل الحمض النووي المعورف باسم دي.إن.آيه (DNA) الموجود في كل خلية؛ بهدف تحسين قوة العضو الحي أو زيادة حجمه أو تعزيز مقاومته للأمراض وتحسين الإنتاج من ناحيتي الكم والنوع أو إيجاد نباتات مهجنة جديدة تتمتع بصفات أحسن.
لكن من جهة أخرى يترتب على هذه الثورة التكنولوجية الكاسحة أو يصاحبها تداعيات كثيرة يكفي أن نذكر منها:
1- التغيُّر الاجتماعي المتسارع، ونعني بذلك أنَّ القيم والمعايير والمؤسسات والعلاقات الاجتماعية تكون عُرضة للتغيير والتحول والتبدل عدة مرات، لا بين جيل وجيل كما كان عهدنا في الماضي، ولكن في حياة نفس الجيل وبطريقة مستمرة. ولن يقتصر هذا التغير الاجتماعي المتسارع على من يشاركون أو يصنعون الثورة التكنولوجية الثالثة والتي ستليها، ولكنه سيشمل كل شعوب الارض، بما في ذلك المتخلفون عن هذه الشعوب.
2- الانفتاح الإعلامي الثقافي الحضاري العالمي؛ فوسائل الاتصال السريعة بل والآنية، تعبر الحدود بلا قيود برسائلها ومضامينها من أي مجتمع لأي مجتمع آخر. وسوف تصبح وسائل الرقابة التقليدية، أدوات بدائية عديمة الكفائة وقليلة الفاعلية في منع أو تحصين الفرد والمجتمع ضد استقبال محتويات الرسائل الإعلامية والثقافية الوافدة من مجتمعات وثقافات اخرى. إنَّ التحصين الحقيقي في مواجهة هذا التدفق الإعلامي الثقافي الوافد هو وعي الفرد والمجتمع وقدرتهما على الفرز النقدي وفِي قدرة وسائل الاعلام والتعليم والثقافة الوطنية على تقديم بدائل أكثر جدية ومصداقية وجاذبية. وهذه مهام تتجاوز قدرات أنظمة التعليم والإعلام والثقافة كما عرفناها في الماضي أو كما نعرفها الآن في مجتمعاتنا. فهذه المهام تتطلب أجهزة خلاقة ومقتدرة إذا كان لها أن تحافظ على هويات مجتمعاتها الحضارية-القومية وتحفظها من المسخ أو الذوبان في نفس الوقت الذي لا يتحول فيه المجتمع إلى متحف تراثي منغلق وجامد.
3- ومع هذه الثورة التكنولوجية الكاسحة سوف تظهر تقنيات أحدث وأكثر تطورا؛ بحيث يقوم الاقتصاد تقريبا على الإنتاج المكنن والمؤتمن. ويؤكد الخبراء أن عالم الأعمال والوظائف يتغير بصورة لم يسبق لها مثيل في أي وقت من التاريخ وكثير من المهن والوظائف الحالية سوف تختفي وتسبب بطالة جماعية إذا لم نتبه للامور. سوف تتغير الوظائف بالطريقة نفسها التي تم فيها انحسار دور الخيول والحيوانات الأخرى في الإنتاج الزراعي، ثم زوال ذلك الدور مع دخول الجرارات.
وفِي سياق هذه العملية، تتخلص الشركات من طبقات الموظفين والإداريين التقليدين. سوف تحتاج الشركات والمؤسسات الرسمية أو الخاصة إلى موظفين يتمتعون بمستويات مهارة عالية ومتعددة والتي تسمى بوظائف البعد الرابع وهي الآن غير موجودة، ومن الصعب التصور إيجادها في ظل النظامين التعليمي والتدريبي الموجودين.
... إنَّ إعادة تنظيم العمل يمكن أن تحدث على نطاق جماعي، وتتسبَّب في عدم الاستقرار مثلها في ذلك مثل الثورة الصناعية في الثلث الأخير من القرن التاسع عشر، وربما تكون هذه أكبر قضية اجتماعية سوف تواجهنا كما تواجه العالم. ومن الصعب التصور بأنَّ النظامين التعليمي والتدريبي في وضعهما الراهن مُستعدان لمواجهة ذلك التحدي، والذي يعني ضرورة القيام بإصلاح شامل وجذري في النظامين.