ثلاثية عُمان.. العروبة (2)

د. رفعت سيد أحمد

منذ شهور، هاجم بعضُ الإعلاميين المصريين والخليجيين -دون ذكر أسماء- دور عُمان فى إطفاء الحرائق التى كانت -وللأسف لا تزال- مُشتعلة بين إيران، وبعض الدول العربية، وتجاوز البعض فى نقده للموقف والدور العُمانى، إلى أن قال أحدهم إن هذه السياسة لا تتماشى مع أصول (العروبة)، والانتماء العربي!

تخيلوا..!!

العروبة.. والانتماء العربي!!

تُرى، ومن منكم يستطيع أن يحدد ما "العروبة" وما "الانتماء العربى"؟ هل هو أن تسير دولنا وشعوبنا كالقطيع خلف مُشعلي الفتن المذهبية والدينية وحرائق الحروب التى تأكل الآن الأخضر واليابس، ولا يستفيد منها سوى العدو الصهيونى؟! هل العروبة هى أن تنكفئ على نفسها وتنعزل دول ذات تاريخ ودور مثل عُمان ومصر، والتى تُريد إطفاءً حقيقيًّا للحرائق التى تمزِّق -الآن- اليمن وسوريا والعراق وليبيا وتستنزف ثروات العرب -وفى مقدمتها النفط- لصالح أسواق السلاح وتجاره فى الغرب، ولصالح بقاء وقوة الكيان الصهيونى!

عجيب..!!

عجيب بالفعل أمر هؤلاء الذين يتعاملون مع العروبة باعتبارها "جاكت"؛ يرتدونه عند اللزوم، ويخلعونه إذا ما اشتد الحر، أو طَلَب منهم أولى "النعم" و"الأمر" ذلك!

فى ظنى.. وليس كل الظن إثم، أنَّ الأمرَ كان سياسة وصراعات مصالح، وليس حقائق على الأرض، خاصة تلك الاتهامات المتصلة بعروبة، لماذا؟ لدورها الملحوظ والمشهود فى إطفاء الحرائق السياسية والمذهبية المشتعلة فى المنطقة، ولموقعها وموضعها فى الجغرافيا والتاريخ، لقد كان "سياسة"، ولكنها سياسة قاصرة النظر، وفوق ذلك مخالفة للواقع!

ومن موقع المراقب للتطوُّرات السياسية الدولية والإقليمية فى منطقة الخليج (مضيق هرمز) ومنطقتنا العربية، أجدنى أقول: إنَّ ما قامت به عُمان فى خلق بيئات صحية للتفاوض فى الملفات الإقليمية الساخنة خلال العقود الماضية يؤكد دورها وانتماءها الصحيح للعروبة؛ ومنها ملفات: ملف أسرى الأمريكان لدى إيران، ملف العلاقات المصرية العربية بعد توقيع كامب ديفيد 1979 والقطيعة الكبرى مع مصر، ملف أزمة العراق مع دول الخليج بعد حرب الخليج الأولى والثانية، الملف النووى الإيرانى، ملف الأزمات الراهنة المشتعلة فى العراق وسوريا واليمن...وغيرها. كانت بدورها الدبلوماسى تجسِّد العروبة الحقيقية؛ إذ لا معنى للعروبة، ولا قيمة لها بلا مضمون، للعدل والوحدة والسلام؛ العروبة ليست كلاماً مرسلاً، يطلقه سياسي أو إعلامي جاهل، أو إعلامي مُوظَّف لدى من يَدْفع أكثر. العروبة دور إيجابي فى حل الصراعات والخلافات بين الأشقاء. وهل قامت عُمان طيلة الـ46 عاماً الماضية إلا بهذا الدور؟! جاحد من يرى غير ذلك.. نعم قد نختلف مع بعض مواقفها أو سياساتها الداخلية أو الخارجية، لكنها فى إطار الدور العروبى ذي المضمون الوحدوي، قامت بواجبها، وكان لها تأثير ونتائج واضحة.

***

ثم لنبحث فى التاريخ؛ وحقائق الجغرافيا، ونسأل: هل عُمان كانت خارجة يوماً من عروبتها؟ إنَّ التاريخ وفقاً للموسوعة العالمية تقول سطوره إنَّ سَلْطَنَة عُمان دولة تقع في غرب آسيا وتشكل المرتبة الثالثة من حيث المساحة في شبه الجزيرة العربية وتحتل الموقع الجنوبي الشرقي؛ إذ تبلغ مساحتها حوالي 309.500 كيلو متر مربع، يحدها من الشمال المملكة العربية السعودية، ومن الغرب الجمهورية اليمنية، ومن الشمال الشرقي دولة الإمارات العربية المتحدة، وتشترك في حدودها البحرية مع إيران وباكستان والإمارات واليمن، لديها ساحل جنوبي مطل على بحر العرب وبحر عُمان من الشمال الشرقي.

من أواخر القرن الـ17 كانت سلطنة عُمان إمبراطورية قوية تتنافس مع المملكة المتحدة والبرتغال على النفوذ في منطقة الخليج العربي والمحيط الهندي وبلغ نفوذها ذروته من القرن 19 وصار ممتداً من مضيق باب السلام إلى العصر الحديث.

وتشير الدراسات الجغرافية المتخصصة إلى أن "مجان" الواردة في الكتابات السومرية تشير إلى "عُمان"، وأنَّ الغالب أن عُمان كانت محطة وصل مهمة للقوافل التجارية، وعرفت هذه المنطقة التاريخية باسم "جبل النحاس"، ولها ارتباط بثقافة "أم النار" وصلات تجارية مع بلاد الرافدين، ولا يعرف الكثير عن طبيعة النظم في تلك المستوطنات الصغيرة، واختفت "مجان" من النصوص السومرية مبكراً في العام 1800 قبل الميلاد. تمتلك عُمان أربعة مواقع ضمن مواقع التراث العالمي، وأختيرت عدة مرات كوجهة سياحية لتاريخ البلاد وثقافتها وتنوع تضاريسها الجغرافية.

هذا.. وتؤكد الدراسات السياسية العالمية أنَّ سلطنة عُمان تتمتع بوضع سياسي واقتصادي مستقر في العموم، اقتصادها نفطي إذ إنها تحتل المرتبة الـ23 في احتياطي النفط على مستوى العالم والمرتبة الـ27 في احتياطي الغاز، وتحتل المرتبة الـ64 من بين أكبر اقتصادات العالم.

إنَّ برنامج الأمم المتحدة الإنمائي يرى عُمان باعتبارها البلد الأكثر تحسناً على مستوى العالم في مجال التنمية خلال 45 عاماً السابقة. يتم تصنيف عُمان كاقتصاد ذي دخل مرتفع وتصنف باعتبارها الـ59 بين البلدان الأكثر سلمية في العالم وفقاً لمؤشر السلام العالمي. سلطنة عُمان عضو مؤسس في مجلس التعاون لدول الخليج العربية وحركة عدم الانحياز والبنك الإسلامي للتنمية وجامعة الدول العربية والأمم المتحدة ومنظمة المؤتمر الإسلامي ومنظمة التجارة العالمية والمنظمة الدولية للمعايير والوكالة الدولية للطاقة المتجددة والمنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة".

***

تلك هى عُمان كما رصدناها عبر المراجع المتوفرة؛ وكمتابع لقضايا العروبة، أرى أن هذا وغيره مما لم نذكره يؤشر إلى المضمون الصحيح لعروبتها، بل ودورها الإنساني؛ فكيف بأمثال "توفيق عكاشة" الإعلامى المصرى المطرود الآن من جنة النفاق السياسى، وإبراهيم حجازى ومنصور المرزوقي البقمى وغيرهم من إعلاميي هذا الزمان، يتهمونها أنها تعمل ضد العروبة، لمجرد أنها قامت بأدوار أطفأت بها حرائق الصراع الإيرانى-الأمريكى، والإيرانى-الخليجى، وتحاول أن تطفئ النيران المذهبية والسياسية المشتعلة فى منطقتها العربية، وبالأخص فى اليمن وسوريا؟!

إننا وبحكم التجربة الإعلامية والفكرية الممتدة منذ قرابة الـ40 عاماً، تعلمنا وعلمنا تلاميذنا، أنَّ العروبة قدر، وليست اختياراً، وهى "دور" وليست كلاماً مرسلاً، وهى هوية بحكم الجغرافيا والتاريخ وليست شعاراً يرفع فى المناسبات، ونحسب أن عُمان فهمت، ولاتزال، كل هذه المعانى للعروبة جيداً.

E-mail: [email protected]