علي الحبسي .. ليس حارس مرمى

أحمد بن سيف الهنائي

إذا ما سلَّمنا بأنَّ لكل إنسانٍ خططاً معلنةً وأخرى "مخفية"، فإنَّ حارس مرمى نادي ريدينج الإنجليزي علي الحبسي، يُعلن ما يُخفي دون أن يُصرّح، حتى أضحى أنموذجاً رائعاً في الجمع بين تِيْنكَ المزيتين. لذا فإنَّ الحديث عن حراسته للمرمى لا يعدو أن يكون سوى استهلاك إعلامي لا يأتي بجديد، ويبقى الإنسان حائراً فيما يستطيع أن يُضيفه في هذا الشأن، بيد أنَّ الجانب الآخر من الرسائل العميقة هو ما يستفزك لتكتب وتُشير لها ببنان المحبة وترفع لها عقيرة الدهشة.

علمنا الحبسي وهو في مسيرته، أنَّ الأيام لا تطوى كطي السجل سريعاً، وأن التجربة لا تنضج بمرِّ السحاب، وأنه دون بلوغ "السماكين" درجاتٍ من الترقي، مشبوبةٍ بالمفاجآت، ومطليةٌ بالتَّجلد والصبر. لقد أدرك هذا المفتاح مُبكراً، وما زال يراه "مستر كي" يفتح به كل الأبواب المُغلقة والمحطات المستعصية، وكما يُشير غير واحدٍ من إخوانه ورفاقه: لقد جعل الصبر عدته وعتاده، وفاكهته في حلِّه وترحاله، وما هي السنين الفائتة من رحلته، إلا وكان شهدها الصبر، وملاكها التجلد والمقاومة والثبات، في وجه المُغريات والمنغصات، فلم يعرف الوهن طريقاً إليه، فهلا وعى هذه الخصيصة والحقيقة جيل اليوم، فلم يستعجل قطف الجنى وهو لا يزال في مرحلة بذر الحب!.

من اتكأ على الصبر، فإنّه لن يخدع بلا شك بأيّ بريقٍ أو زيف، ما يكون نتيجةً حتميةً لنضارةٍ تبقيه متوهجاً بسلطان الأخلاق، فكان سفيراً للأخلاق في بلده، فما بالك بخارجه!، إذ يعيش الحبسي "إنسانيته"، وهو يُمارس دوره كترجمانٍ لأخلاق العربي في بلد المهجر، حتى نال بها مكانةً في النفوس، جعلته مهوى النفس وحياة الخاطر، فتلقفته القلوب أنّى حلَّ وارتحل. يقصده الطلبة العمانيون المبتعثون في إنجلترا، يستقبلهم برحابة، ويدخلهم إلى بيته المليء بالمشاعر، حتى لكأنهم يخرجون منه وقد وُلِد لهم أهلٌ في غربتهم، وكذا حاله مع القريب والبعيد، لم يتخلَ عن ثوابته ومُعتقداته وجميل عاداته وتقاليده ومكارم أخلاقه.

قيل إنِّه أنشأ أكاديمية لتعليم الناشئة كرة القدم، لكنه قبل ذلك أنشأ مدرسةً عظيمة في برِّ الوالدين، والحنو عليهما والسعي لتأجيج مشاعر المحبة والامتنان لهما عمره كله، وما صوت أمه الرخيم كل صباح، وعبارات أبيه كل مساء، إلا وقودٌ فعّال لتغذية يومه كله بالحب والخير والجمال والعذوبة، فالأسرة هي المكوّن الأول لحياته العاطفية، وما يتعارض معهما؛ مهما عظم أو صغر، يطيح به إلى قائمة التجاهل والتغاضي، والأمثلة على ذلك كثيرةٌ، لا يحق لأحد كشفها غيره، لكن الأسرة الصغيرة والكبيرة تعلم ذلك جيداً أكثر مما سواها.

هل أراد الحبسي بتواضعه ودماثة أخلاقه، ومحافظته على مبادئه وقيمه أن يسجل اسمه في التَّاريخ أكثر من كونه حارس مرمى؟ إني لأجزم أنّه لو خُيِّر بين أضواء الشهرة وهيلمانها، وأصبح الحارس الأوَّل الذي تتغنى بذكره الأفواه، ويخطب وده كل مُدرب، وبين أن تنتقل سيرته العطرة وأخلاقه بجلالٍ وضياء بين الألسن والدفاتر، لأختار الأخرى على الأولى، وهذا حال كل ناجحٍ، بيد أنَّ الحبسي أذكى من ذلك كله، حينما يُرتب أولوياته، ويسعى لتحقيق الأمرين وأكثر دون تراخٍ أو توانٍ دون مثالياتٍ حالمة ولا سلبيةٍ مُفرطة، ومن استطاع أن يصمد كل هذه الفترة دون قفزٍ للمراحل قادرٌ على تحقيق ذلك، ما دام يؤمن بالعمل وتطوير النفس وتوفيق الله ورضا الوالدين.

 [email protected]