حاتم الطائي
تجتذبُ الانتخابات الرئاسية الأمريكية اليوم اهتمامَ الرأيِّ العام العالمي، وهي تقترب من يوم الحَسْم الثلاثاء القادم، في وقت انْحَرفَ فيه مَسَار الخلاف بين المرشَّحيْن الرئاسييْن عن الإطار الأخلاقي، ليتحوَّل إلى ما يُشبه "دراما فضائحية" في كيل الاتهامات؛ وكمؤشر يَضَع علامات استفهام كبيرة أمام مُستقبل الولايات المتحدة بعد هذه الانتخابات تحديدًا! خصوصا بَعْد ما أحدثته مواقف المرشح الجمهوري دونالد ترامب بتصريحاته "الغريبة" -والمثيرة للسخرية أحياناً- والمرشحة الديمقراطية هيلاري كلينتون التي تحاول الظهور بمظهر أنيق لإخفاء مشاكلها العميقة -حاملةً رسالة أمريكية للعالم باتساع مساحة الديمقراطية هناك بأن تعتلي امرأة سُدة الحُكم- من شرخٍ كبيرٍ في المجتمع الأمريكي، واضطرابٍ في أوساط "الحلفاء التقليديين" من جانب آخر.
وبغضِّ النظر عمَّن سيفوز بالماراثون الانتخابي، فإنَّ كلَّ الدلائل تشير إلى أنَّ واشنطن على موعد مع حقبة جديدة على المستوى السياسي والاجتماعي؛ فموازين القوة الديموغرافية والفكرية داخل المجتمع الأمريكي آخذة في التغيُّر؛ والأعراق الملونة تزداد انخراطا في الحياة السياسية أكثر من ذي قبل، خصوصا بعد أن مَكَث الرئيس الأمريكي الإفريقي الأصل باراك أوباما ثماني سنوات في البيت الأبيض. مما يعني أن أمريكا على موعد مع تغيُّرات اجتماعية كبيرة قد ترافقها تحوُّلات اقتصادية تؤجِّج الصراع السياسي والاجتماعي، وتُثقل كاهل السياسة الداخلية خلال السنوات الأربعة المقبلة، وتزيد مستوى العنف والعنف المضاد.
وبالنسبة لنا، فإنَّ انتظار إعلان الفائز يبدو مثيراً نوعا ما؛ فمن سيحكم البيت الأبيض بين 2017 و2021 سيكون أحد خياريْن أحلاهما مُر: ترامب اليميني المتهوِّر عديم الخبرة، وهيلاري التي غالبا "وريثة" سياسة أوباما، في وقت لا تبدو فيه أية مؤشرات مُطمئنة بالنسبة للشرق الأوسط "الملتهب" ولا القضايا العالمية المنذرة بحرب عالمية ثالثة إذا لم يُنتزع فتيلها مُبكرا؛ في سباق هو الأكثر إثارة في تاريخ الانتخابات الأمريكية؛ فملفات السياسة الخارجية المتراكمة على طاولة الرئيس القادم لا تنحصر، من حرب على الإرهاب، إلى نزاع أوكراني، ويقظة الدُّب الروسي، وتمدُّد التنين الصيني، ومشكلات شبه الجزيرة الكورية، والأزمة في سوريا والعراق وليبيا واليمن وبينهم القضية الفلسطينية، وإرضاء الحلفاء التقليديين واجتذاب حلفاء جُدد.. فقراءة كتلك تجيء في مرحلة تقطف فيها المنطقة ثمار "عقيدة أوباما"؛ إذ إن صناعة القرار في السياسة الخارجية الأمريكية ليست كغيرها في أي دولة؛ فالولايات المتحدة دولة لها نظامها المختلف، وهي ساحة تسمح للجميع بولوجها من خلال لوبيات المصالح والضغط، من أكبر دولة بعد الولايات حتى أصغرها. وأول القوى المحرِّكة والمؤثرة في السياسة الخارجية بطبيعة الحال هو "الرئيس" الذي يرسم الفلسفة العامة ويدير التوجهات، يليه الكونجرس بدعم الدستور لهذه الشراكة، عِوَضا عن عِدَّة مُحركات ما خَفِي منها أكثر بكثير مما يُعلن عنه.
لذا، لم يعد من المنطق في شيء اليوم البحث عن حسنات وسيئات دونالد أو هيلاري، بل الأهمية الآن تكمُن في التعامل مع القضايا بواقعية براجماتية، وأن تنبني القراءة العلمية للسياسة الأمريكية، على وعي كامل بطبيعة سياسة الحزبين الرئيسيين المتنافسين، والتطورات التي حدثت في سياساتهما؛ وهو سياق يستوجب لفت الأنظار قليلا إلى خطابات ومواقف بل والاتهامات المتبادلة بين المرشحيْن؛ إذ فيما يبدو أنها تعكس الوجه الحقيقي للنظرة الأمريكية نحو العالم، خاصة المنطقة العربية منه، وما تشي به تصريحاتهما المضطربة من "خارطة طريق" ترسمها الإدارة الأمريكية لنفسها؛ تبحث من خلالها عن خلق حرب جديدة بين العقلاء والمعتدلين والمتطرفين الذين بدأت تصطف واشنطن إلى جوارهم، في وقت تتحكَّم في "دواليب صناعة القرار العالمي" للسيطرة على أغلب المؤسسات الأممية الحيوية والتحكم فيها.
وعلى هذا الأساس، يبقى في حُكم "المجهول" التكهُّن بمستقبل السياسة العالمية -وفي القلب منها السياسة الأمريكية بكل تأكيد- بعد انتهاء هذا المشهد الانتخابي، لكنَّ ما تؤكده التحليلات هو أنَّ شرخًا عميقًا ستخلفه الانتخابات الأمريكية سيبقى "سيد الموقف" لعدة سنوات قادمات، بما يضع واشنطن أمام تحديات جديدة داخليًّا وخارجيًّا، يصعُب معها على الرئيس المقبل أن يُغيِّر وجه بلاده وسياساتها؛ فمن يدخل البيت الأبيض يحكُم بناءً على توازنات مُعقَّدة؛ لن يكون بإمكانه وفقها "اختطاف" القرار من شركائه في الهياكل الاتحادية، فما يُرفع في سياق الحملات الانتخابية من شعارات ويُطلق من وعود، ليس سوى نوعٍ من الخطابة السياسية نابعة من الثقافة الأمريكية القائمة على "إرادة القوة" والرغبة في القيادة والسيطرة على العالم.
ويبقى القول في الأخير، إنَّ حصيلة الحملتيْن الانتخابيتيْن طوال عامٍ كاملٍ، وما تمخَّضت عنه المناظرات الثلاث بين الرئيسيْن المحتمليْن، تضع المجتمع الأمريكي وتوجُّهات السياسة العالمية ككل أمام خياريْن كلاهما أشد وقعاً من الآخر؛ وتعكس في المُجمل تبعات أزمة حقيقية في "القيادة" يعاني منها عالم اليوم؛ فبالنظر إلى وضع المُرشحيْن الرئيسييْن لهذا العام، يبدو واضحاً أنَّ السباق الرئاسي قد أزاح الستار عن التصدُّع الداخلي للنظام السياسي في أمريكا، وأماط اللثام عن عيوب مجتمعية عديدة، ويبدو أنَّ تنافس مُرشَّحة "آيلة للسقوط" تفتقد للحِس الأمني، ضد مُرشح لا يتورَّع عن المُجاهرة بعُنصريَّته وعدائه لكل ما هو ليس "أنجلوساكسوني"، في الدولة التي تتربع على عرش قيادة العالم، ما هو إلا رأس جبل الجليد الذي يُخفي تحته ما هو أعظم!