تراجع مكانة الشرق الأوسط في السياسة الخارجية الأمريكية

 

عبيدلي العبيدلي 

يُركز المُشاهد العربي لسباق الماراثون الرئاسي الأمريكي بين مرشحة الحزب الديمقراطي هيلاري كلينتون ومنافسها الجمهوري دونالد ترامب، بوعي أو بدون وعي على موافقهما المُعلنة من قضايا الشرق الأوسط، وفي القلب منها القضية الفلسطينية. فكما يبدو – لكن ليست تلك هي الحقيقة - يحظى الشرق الأوسط أكثر من سواه من مناطق العالم الثالث بمكانة مُميزة في خارطة السياسة الخارجية الأمريكية، ترغم المتنافسين على الوصول للبيت الأبيض على التوقف عندها والحديث عنها. ليس بسبب الرقم الذي يمثله اللوبي الصهيوني في معادلة تلك الانتخابات فحسب، ولكن بفضل المصالح الأمريكية الضخمة والمتنامية في هذه المنطقة أولاً، وجراء الموقع الإستراتيجي الذي تنفرد به في خارطة العلاقات الدولية أيضًا.

تجمع أغلب الدراسات الإستراتيجية التي تناولت أوضاع المنطقة على أن "انهيار الاتحاد السوفياتي فتح شهية الولايات المتحدة لهيمنة عالمية لم يسبق لها مثيل. فأصبحت إستراتيجية التدخل الأمريكي هي الأبرز طوال فترة التسعينات، وحتى الآن. وإذا اختلفت الإدارات الجمهورية أو الديمقراطية بأي حال من الأحوال، كان هذا الاختلاف حول الخطاب، وليس الأداء. وبالرغم من أنَّ الجمهوريين برّروا مداخلاتهم على أساس المبادئ الوقائية، لكن الديمقراطيين أشاروا إلى التدخل الإنساني. وكان كلا النهجين قاتلا وأدى إلى زعزعة استقرار الشرق الأوسط بشكل غير قابل للإصلاح". ويذهب بعض الدراسات إلى القول "في حين أنَّ الإدارات الأمريكية تغيّر من تكتيكاتها، وترسّخ مذاهبها وتتكيف مع مختلف الظروف السياسية، أينما تدخلت في هذا العالم، دائمًا ما تأتي الكوارث المعقدة في أعقاب هذه التغييرات". 

الباحث علي الحوامدة يرى في أطروحته لنيل شهادة الماجستير المعنونة "الأبعاد السياسية والاقتصادية للمشروع الأمريكي (الشرق الأوسط الكبير) وأثره على المنطقة العربية 2001-2005"، أنّ "المشروع (الأمريكي تجاه الشرق الأوسط) ينطلق من حقيقتين غاية في الأهمية وهما أنّ هناك تدهورا كبيرا في الأوضاع العربية بمُختلف مجالاتها السياسية والاقتصادية، مما دفع إلى ضرورة البدء بإصلاح هذه الأوضاع قبل أن تتفاقم أكثر مما هي عليه الآن، والحقيقة الثانية هي أنّ هذه الأوضاع المترهلة تشكل دافعاً قوياً لنمو الإرهاب والجريمة الدولية والتطرف مما يتطلب ضرورة وضع حد لهذه الظواهر المُقلقة". 

على نحو موازٍ، وفي عرضه لكتاب والي نصر - الذي صدر مع بداية الفترة الرئاسية الثانية للرئيس أوباما-  المعنون بـ "الأمة المستغنى عنها: السياسة الخارجية الأمريكية في تراجع"، يشير عمرو عبد العاطي إلى "أن الولايات المتحدة أخفقت في تعاملها مع موجة الربيع العربي وفي سياستها تجاه المنطقة، وأن الموقف الأمريكي من المنطقة والثورات العربية كان خطابا بلاغيا مفعما بالآمال والطموحات التي لم تجد لها سبيلاً للتطبيق على أرض الواقع، ويتحدث عن تأرجح الموقف الأمريكي من تطورات الربيع العربي بين دعم الأنظمة السياسية تارة ودعم الشعوب الثائرة تارة أخرى ولم يعرف ماذا يفعل بعد ذلك، كما كان شأنه في مصر مع بداية ثورة الخامس والعشرين من يناير/كانون الثاني، وكذلك في امتناعه عن إنهاء المجازر الإنسانية في سوريا. ويرجع نصر إخفاقات السياسة الخارجية تجاه المنطقة وقضاياها إلى عجز الخارجية الأمريكية عن قراءة تطورات الشرق الأوسط والانسحاب من المنطقة والاحتفاظ بوجود محدود في مقابل نقل الثقل الأمريكي للقارة الآسيوية لمواجهة النفوذ الصيني". 

يؤكد هذا الاتجاه المتحول في سياسة الولايات المتحدة الخارجية بحيث لم يعد موقع الشرق الأوسط يتبوأ أعلى قائمة أولوياتها الكاتب منار محيسن حين يفصح صراحة قائلاً "فقد الشرق الأوسط مكانته كساحة سجال أيديولوجي بين الغرب الرأسمالي والشرق الاشتراكي بعد انهيار الاتحاد السوفييتي في عام 1991. روسيا التي ورثت الاتحاد السوفييتي لم ترث عظمته الدولية ولا أيديولوجيته، والصين - القوة الصاعدة - والذي يعتبر اقتصادها نوعاً من أنواع الرأسمالية، لم تعد الأيديولوجيا عاملا من عوامل التأثير في رسم سياستها الخارجية". 

وكثيراً ما يضخم بعض المجتهدين العرب في مجال العلاقات الأمريكية العربية من حجم المصالح الأمريكية في الشرق الأوسط، لكن من يبحث عميقاً في هذا المجال يكتشف، مثل أستاذ العلوم السياسية بالجامعة الهاشمية في المملكة الأردنية الهاشمية عدنان الهياجنة أن "حجم اقتصاد الولايات المتحدة الأمريكية يبلغ ضعفي الاقتصاد الياباني إذا اعتبرت اليابان أنها المنافس الأول للولايات المتحدة الأمريكية اقتصادياً، فعلى سبيل المثال فإنّ اقتصاد ولاية كاليفورنيا يعتبر خامس أكبر اقتصاد في العالم متقدماً على دولة مثل فرنسا ويأتي بعد دولة مثل بريطانيا العظمى. وعلمياً فإن الإنفاق الأمريكي على البحث العلمي والتطوير مع نهاية التسعينيات يقدّر بما يُساوي مجمل إنفاق أكبر سبع دول مجتمعة مع بعضها البعض". 

يؤكد تراجع مكانة الشرق الأوسط في تلك السياسة تقرير نشره مركز بروكينغز الدوحة، جاء فيه أن "الشرق الأوسط في حالة اضطراب، والآن مصالح الولايات المتحدة في حالة تغير مستمر أيضًا. ونتيجة لذلك، ورغم ما قد تسمعه في الحملة الانتخابية، فإن الإدارات الأمريكية القادمة قد تتبع مسار الرئيس أوباما وستكون حذرة بشأن أيّ تدخل أكبر في الشرق الأوسط". 

ويبني التقرير استنتاجه هذا على مُقدمة مطولة غنية بالمعلومات يشير فيها إلى أن "ارتفاع أسعار النفط في الماضي ألحق ضررًا بالاقتصاد الأمريكي. وفقًا لإدارة معلومات الطاقة الأمريكية، تنتج منطقة الشرق الأوسط 30 في المئة من السوق العالمية، وما تزال المملكة العربية السعودية تمتلك قدرة إنتاج كبيرة، (لكنه يعود كي يؤكد على أنه) ورغم هذا الدور المركزي، فإن استقرار منتجي النفط الأجانب هو أقل أهمية للولايات المتحدة مما كان عليه في الماضي، وإن كان ما يزال مصلحة حقيقية، (مضيفا) الولايات المتحدة نفسها عادت كلاعب رئيسي في مجال النفط، وارتفع الإنتاج الأمريكي من النفط من 8 ملايين برميل يوميًّا عام 2004 إلى 14 مليون برميل يوميًّا عام 2014." 

هذا يؤكد أنه بخلاف ما يتوهم البعض منّا، لقد تراجعت مكانة الشرق الأوسط في أولويات السياسة الخارجية الأمريكية، وإن إعادتها لمكانتها بحاجة إلى جهود مضنية مختلفة لا يملكها صانع القرار العربي اليوم، وامتلاكها بحاجة إلى ذهنية مختلفة مغايرة ما يزال العرب بعيدين عن الحصول على أصغر مكوناتها.