د. عبدالله باحجاج
لن نبالغ في المطالب، وسننشد الممكن في ضوء الواقع المتاح، وكذلك ماهيّة المستقبل الاقتصادي الذي يخطط منذ الآن، وتأثيره على إعادة صناعة المجتمع، انطلاقا من المثل القائل، إذا أردت أن تطاع فطلب المستطاع، سنطالب بالبديهيات المتناغمة مع التطورات المفترضة من السياسات والاستراتيجيات المعتمدة في البلاد، وهذا تدليل على أن أصلها موجود، لكنها تحتاج لتغير فكرنا من مسألة الوصول إلى اكتمالها، ومسألة الانفتاح عليها الآن، تصب في المصطلح الجميل الذي كنا نسعى إلى تحقيقه كلا من منظوره الخاص حسب ما يوجهه وعيه، وما يملي عليه ضميره، وهي المصلحة العامة، فهي – أي المصلحة العامة - تحتم فعلا تفعيل المشاركة المجتمعية في القرار المحلي، فمن حق كل جماعة محلية أن يكون لها رأي مؤثر في إقامة طريق أو مدرسة أو مستشفى أو حتى إقلاع شجرة ..إلخ بدلا من أن يستأثر بها الزاميًا سلطة محلية تمثل المركزية داخل تراب الجماعات المحلية.
هل في رؤية 2040 تفعيل للمشاركة المجتمعيّة في القرار المحلي؟ فالرؤية يفترض أن تكون شاملة، تحضر البلاد من النواحي الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، لضبط التغير الذي يختلف شكلا وجوهرًا عن التغيير، فالأول، يعبر عن إرادة التطور المنضبطة والمستشرفة مما يكون هامش المفاجأة السلبي محدود جدا، على عكس التغيير الذي يحدث فيه التطور بصورة مفاجئة، أي خارج الإرادة، ويكون هامش المفاجأة السلبية كبيرًا، وفي حالات غير مسيطر عليه – وقد أشرنا إلى اختلاف المفهومين في مقال سابق - من هنا ينبغي أن نعمل العصف الذهني على استشراف المستقبل لهندسة التطورات حتى تكون تحت الإرادة والسيطرة، والتساؤل سالف الذكر لا يعبر عن النفي بقدر ما نطرحه من منظور الاستفسار فقط من جهة، والتأكيد على أنّ طبيعة الرحلة الراهنة، من حيث تحولاتها الداخلية والخارجية، وآفاقها المقبلة، تجعلنا ننفتح على المشاركة المجتمعية في صناعة القرار المحلي بعد أن تبنينا تجربة المجالس البلدية للتنمية الإقليمية في بلادنا، وهذه خطوة سياسيّة بعيدة المدى، هدفها تحميل كل مجتمع محلي مسؤوليته الإقليمية بعيدًا عن المركزية، فكل مجتمع محلي يعلم دون غيره باحتياجاته الخاصة به، وأولوياتها، خاصة فيما يتعلق بشئونه اليومية، وقد وصل المواطن الآن إلى قناعة بأهميّة مشاركته في القرار المحلي، وهذه القناعة مبنية من واقع معاش وليس افتراضية، وملامح هذا الواقع الاستدلالي كثيرة، منها تزايد الأعمال التطوعية والإقبال عليها خصوصا من فئة الشباب، ونجاح الفاعلين المجتمعيين المحليين في تسيير وإدارة مؤسساتهم الخاصة ومؤسسات المجتمع المدني، والوعي الاجتماعي المرتفع المؤسس على العلم والمعرفة، والذي حاكمه التفاعلية والالتزام والإلزام بالعمل الجماعي الذي ينتجه الإقناع بالأولويات والظروف والظرفيّات.
وتلكم أهم الرهانات على نضوج المشاركة السياسية المحلية الآن بالذات، ومن خلال مشاركاتنا في مؤتمرات ولجان داخلية، انكشفت لنا تلك الملامح الهامة، لذلك، لا ينبغي أن نتوجس من زيادة منسوب المشاركة السياسية المحلية الآن، فتلك الرهانات ضامنة للمسار الجديد، وهذه المشاركة حتمية للمرحلة المقبلة، لماذا؟ للعلاقة المتبادلة بين التخطيط للمرافق والمحافظة عليها، فلكي يكون المواطنون مسؤولين عن المرافق العامة، لابد أن يكونوا مشاركين في التخطيط وصناعتها، وماذا يعني ذلك؟ يعني أنّ تفعيل صلاحيات المجالس البلدية خلال المرحلة المقبلة تستدعيها متلازمتي التغير والتغيير وفق خلفياتهما التي أشرنا اليهما سابقا، فالمجالس البلدية، قد تجاوزت الآن مرحلة التأسيس بنجاح، وينبغي أن تنطلق إلى مرحلة جديدة تمكنها من مشاركة رؤساء البلديات في التخطيط وصناعة القرار بدلا من الاستمرار في الرأي الاستشاري، فالمجلس البلدي لا تستطيع مشاركة رئيس البلدية في قرارته ولا معارضته.. كما أنّ توصياتها الاستشارية تظل كلها تحت وصاية الوزير.. فهل آن الأوان للمجالس البلدية أن تكون مشاركة في صناعة القرار المحلي؟ لن نحلم بأن يتم اختيار رئيس البلدية بالانتخاب من بين الأعضاء الفائزين في الانتخابات، ولو حلمنا، فإن ذلك سيكون مشروطا بإصلاحات جديدة كتفرغ الأعضاء عبر منحهم إجازة طوال عملهم البلدي.. حتى نضمن أعضاء مستهدفين بذوات محددة، ولو تحقق هذا الحلم، فسيكون البناء الهندسي للمشاركة السياسية المحلية في بلادنا قد نقل المسؤولية عن التنمية الإقليمية أو المحلية من الحكومة إلى المجتمع، فسيتم توزيع موازنات البلديات السنوية وفق مرئيات مجالسها البلدية المنتخبة تنفيذا للرؤية الاستراتيجية العامة للدولة، وتحت مساءلة ومحاسبة أجهزة الدولة وفق نظام الحوكمة وبرنامج قياس الأداء، وبذلك تكون الحكومة قد نأت بنفسها عن أي إخفاق مرحلي، بل إن النجاح سينسب للشراكة بين الحكومة والمجتمع، فهل يحق لنا الحلم بهذا التطور؟ سياق التطورات المتلاحقة في بلادنا يقول إن الحلم سيتحقق، لكن، متى؟ إذا أرادت الحكومة أن تخفف عن نفسها الضغوطات المقبلة، وهى ستكون ثقيلة ومزعجة كثيرا، فعليها تفعيل المشاركة المجتمعية في القرار المحلي.
لكن ماذا عن المجتمع في المقابل؟ عليه أن يرتفع إلى مستوى الاستحقاق الذي نطالب به الآن، وهذا لن يتحقق إلا إذا اختار المجتمع النخبة التي يقتنع بأنها ستكون المؤهلة في إدارة شؤونه بكل تجرد وموضوعية، ولو اخترناها من هذا المنظور، فلن تظل صامتة على الظواهر السلبية داخل مجتمعاتها، ستشارك بفاعلية مع الجهود مكافحتها، بل وستكون لها المبادرة، لن ننكر جهود البعض خلال الفترة الأولى من تجربة المجالس، لكنها تظل جهود دون أن يكون لها أسنان، فأين هي من ظاهرة انتشار ظاهرة القات مثلا؟ لماذا لم ترفع وعي المجتمع بها أو تعمل جنبا إلى جنب مع المؤسسات الحكومية؟ لو اشتغلت المجالس البلدية على دراسة الظواهر داخل مجتمعاتها، وعملت على حلها، لكفى بها شغلا وانشغالا خلال مرحلة التأسيس، والصلاحيات البلدية تعطيها الحق في دراسة الظواهر، إذن، فلنختر الفاعلين المحليين الذين أثبتوا إخلاصهم للعمل المحلي، والذين نتوسم فيهم الغيرة على مجتمعاتهم، والذين نظن أنهم سيوازنون بعقلانية بين المصلحتين الوطنية والمحلية، وننصح هنا بعدم الإغراق في أصحاب المؤهلات والكفاءات ما لم تتضمن شخصياتها معايير فنية مهمة مثل الفعالية والفاعلية، وما لم تتوفر فيها مثل هذه المعايير، تظل الكفاءة والشهادة هي والعدم سواء...إلخ ولو اخترناها من هذه الرؤية لانفتحت المجالس البلدية على مجتمعاتها بدلا من انغلاقها الجامد، فليس هناك ما يمنع حضور الصحافة والإعلام جلسات المجالس، وكيف نتطلع لتطوير الأداء ونريد المجتمعات المحلية أن تتحمس للانتخابات المقبلة، وهي لا تعلم شيئاً عن نتائج هذه المجالس؟ نتطلع لأعضاء جدد أكثر فاعلية في دراسة ظواهر مجتمعاتهم المحلية – وما أكثرها وما أخطرها – نتطلع لأعضاء يكون شغلهم الشاغل الخدمة المجتمعية وليس الانتفاع منها، وتتميز النخبة بمجموعة من الخصائص الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والدينية مما يجعلها مقبولة ومؤثرة داخل مجتمعها المحلي، والكرة في ملعب المجتمع الآن.