اجتثاث الرؤوس .. وتجفيف المنابع

 

د.عبد الله باحجاج

هزّتنا صور كراتين القات وهي تطفو قرب شواطئ محافظة ظفار، والتي تناقلتها وسائل التَّواصل الاجتماعي يوم الخميس الماضي في مَشهٍد يطرح الكثير من التساؤلات، ليست محل موضوعنا هنا، وبُعيد تناقل هذه الصور، أعلنت الجهات الرسمية المُختصة عن اكتشاف (الآلاف) منها، وإلقاء القبض على المُتهمين لحظة التسليم والاستلام، وقضية القات ليست جديدة، وإنما قديمة، وقد تناولناها في عدة مقالات سابقة، آخرها مقال – القات .. تحت شجرة طيق – وذلك عندما عثرنا فجأة على كراتين للقات تحت هذه الأشجار الظليلة في مكان مأهول بالسكان والمارة وقريب من المدينة، وهذا النوع من الأشجار يقصده الباحثون عن الهدوء والهواء النظيف، فلم ولن نتوقع أن نعثر فيها على هذا النوع من المخدرات، وفي هذا المقال تساءلنا عن الرقابة، وعن مدى فعاليتها؟ والآن عندما تطفو كراتين القات على الشواطئ وبكميات مُخيفة، هل هذا يعني أننا نتقدم في مكافحة القات أم نتراجع؟ وما هي الأسباب؟.

من المشهد يبدو لنا أنَّ الجهود تقتصر فقط على مُطاردة الموزعين الذين هم صغار السن، دون العمل على اجتثاث الرؤوس من تجار ومُهربين، وتحقق المطاردة في الغالب نجاحات مشكورة، لكن، هل هذا يكفي؟ نطرح هذا التساؤل في ضوء استشرافنا لمُستقبل مخدر القات في بلادنا في ظل ما يُعانيه الجار اليمني من فلتان أمني شامل، وكذلك في ضوء تزايد أعداد الباحثين عن عمل، وحجم المُرتبات الضعيفة للآلاف من الشباب، مُقابل العائد المالي الكبير للقات الذي حدَّده لنا مصدر رسمي يرفض الكشف عن هويته (خمسة) آلاف ريال للكرتون الصغير، والربطة الواحدة تُباع بما بين (30-25) ريالاً فكيف لا نتوقع الإقبال عليها في ضوء تلك الظروف والمعطيات سالفة الذكر؟ إلى درجة أننا ينبغي أن نتساءل الآن عن مدى انتشارها في فئة الشباب والأطفال؟ وتساءل آخر عن امتدادها مناطقيًا؟ فهي قد أصبحت ظاهرة، وفي تزايد لا تناقص، لماذا؟ تساؤل كبير، ويفتح نوافذ عديدة، لعل أبرزها وصول تلك الكراتين إلى الشواطئ حاليا وأشجار طيق سابقاً، لن نفتح مثل هذه النوافذ، فالأهم الذي يشغلنا الآن، هو الحل الشامل للقضاء على تجارة القات من خلال تجفيف منابعها وتحطيم رؤوسها لا الاقتصار على مطاردة الموزعين، ليس في مجال القات فقط، بل كل الظواهر الأخرى، وما أكثرها، وللأسف، هناك ثغرات كبيرة لا تُساعد جهود مكافحة المخدرات والمؤثرات العقلية على تأدية جهودها الوطنية المخلصة، أبرزها سلبية المجتمع والجهات الحكومية المدنية، حيث لا تعد هذه القضية ضمن أولويات النُخب والفاعلين الحكوميين والمجتمعيين المحليين، بدليل ماهية انشغالاتهم، ونوعية اهتماماتهم، بل إن الواحد منهم، لا يعرف حتى متى خرج أو دخل ابنه من منزله .. سلبية غير مُبررة، كما أنّ اهتمام سلطتنا المحلية لا يرتقي إلى مستوى تصاعد قضية القات وخطورته، سلبية أخرى غير مبُررة، ماذا ينتظرون لحل مشاكلهم، خبراء من جنوب أفريقيا؟ القضية لابد أن تُطرح بهذه المكاشفة لتحميل المسؤوليات بعد إحباط تهريب أكبر كمية من مخدر القات من ثلاثة أماكن متوزعة بين الشرق الظفاري وغربه، وبكميات غير مسبوقة تمامًا، تبلغ في مجموعها (3325) رزمة قات، وهذه الكميات كفيلة بإغراق شبابنا وأطفالنا في هذه المادة المخدرة، ولو فتحنا نافذة استشرافية للتداعيات غير التقليدية لتجارة القات في حالة تعمقها في البنيات الاجتماعية، فإنها ستؤدي إلى بروز كيانات وتشكيلات دخيلة على المجتمع، وقد تتسلح لحماية تجارتها، ولن نستبعد أن تتشكل وتتلون هذه العصابات، وتسلب القرار من السلطة، وتدخلنا في منزلقات أخرى، وهي بلاشك ستمس جوهر أمننا الاجتماعي والسياسي، وهذا مسار حتمي لمثل هذه الظواهر غير الغريبة والعجيبة إذا لم نُحاربها فورًا، فهي لها تداعيات كبيرة على مستوى الفرد نفسه وأسرته ومجتمعه وبلاده، واستنطاقنا لمثل هذه الاستشرافات – لا قدّر الله – بهدف استنهاض الهمم الحكومية والمجتمعية لإعلان الحرب الشاملة على القات وبقية المخدرات والمؤثرات العقلية حتى نجنب بلادنا مثل تلك التداعيات .

من هنا نقترح الآتي: الإسراع في استكمال مشروع الأمن البحري مهما كانت ظروفنا المالية، فهو من الأولويات العاجلة في ظل تلك الظروف، خاصة إذا ما علمنا حجم النقص الملموس في الإمكانيات التقنية والبشرية المتخصصة، إذا ما أردنا تجفيف منابع الآفات في مهدها أو قبل أن تصل للموزعين المُغرر بهم، ومفهوم الأمن البحري يتضمن عناصر مختلفة بدءًا من حرية الملاحة إلى القدرة على التَّصدي لتهديدات الإرهاب والقرصنة والاتجار بالمخدرات والبشر وانتشار أسلحة الدمار الشامل، ففي شق قضيتنا، لا ينبغي الانتظار حتى الانتهاء من بناء القاعدة البحرية الجديدة في مرباط، فظاهرة القات لا تحتمل التأخير، ولا التأجيل، وهي تلح وفورًا مثلا الاستعانة بطائرة تستطلع وتمشط وتتحرى داخل مياهنا الإقليمية في ظفار، فهناك فراغ رقابي تقني واضح ينبغي الإسراع في ردمه فورًا مثلما نجحنا في الحد كثيرًا من تهريب القات وتهريبات أخرى برًا بعد إقامة الجدار على الحدود، ولن يكون مستحيلاً ضبط المسلك البحري إذا ما تمت الاستعانة بمثل تلك الطائرة وبالتقنيات الحديثة ذات الاستشعار العالي، وشددنا الرقابة من حدودنا البحرية المجاورة، فهل سنُسارع في تزويد جهات المكافحة بمثل هذه التقنيات المهمة؟

وكذلك ينبغي الإيمان بأن خط دفاعنا الأول، يبدأ من خارج الحدود وليس من داخلها، وعلاقات سلطتنا المحلية مع نظيراتها المجاورة متميزة، ويمكن تسخيرها لخدمة تأسيس أو تعزيز هذا الخط في محاربة تجارة القات وبقية السموم الأخرى، فالمتعاطون نوعان، من يذهب إلى اليمن لكي يتعاطى، وأغلبهم راجلون، أي على الأقدام وفي سن (25) سنة وما دونها أو يتعاطون القات المُهرب، والسلطات المحلية هناك بمختلف مستوياتها المهنية والوظيفية تعلم بذلك – وقد أشرنا إلى ذلك في مقال سابق - لكنها لم تحرك ساكناً، فكيف نُريد القضاء على القات؟ ونقترح كذلك، إقامة شراكة مع المُجتمع لمحاربة الظاهرة على غرار ما فعلت البلاد قبل السبعين وبعيده في الحفاظ على ديموغرافيتنا وحدودنا الشمالية من ظفار، فهناك بؤر معلومة بالضرورة، فلماذا لا تتحول إلى نقاط أمنية دائمة، يستعان فيها ببعض أبناء المنطقة عبر دمجهم في القوة الأمنية والعسكرية؟.

وأخيرًا، نقترح تفعيل دور مكتب وزير الدولة ومُحافظ ظفار عبر إقامة لجنة خاصة تضم خبراء ومتخصصين وفاعلين محليين من مدنيين ومن مختلف الجهات الحكومية، وتكون مُرتبطة بمعالي الوزير مُباشرة، دورها تقديم الرؤى والمُقترحات، والعمل على تنفيذها، على أن تُساهم في وضع خطة إعلامية لوعي المجتمع بأهمية التربية الأسرية عامة وبخطورة القات وبقية المخدرات خاصة، ودراسة كل الظواهر القديمة والمستجدة في ظفار، وتعمل على تحريك المؤسسات لمكافحتها، ونقترح تشكيل هذه اللجنة في كل محافظة من محافظات البلاد، فالمُحافظات كظفار لا تُعاني من ظاهرة واحدة كالقات وإنما من مجموعة ظواهر لا تقل خطورة من القات، وتحتم اجتثاث الرؤوس لا الزج بالمُغرر بهم في السجون، فهل ستكون مقترحاتنا صرخة في وادٍ سحيقٍ؟.