علي المعشني
يُعرّف الفيلسوف والمفكر العربي السعودي د. إبراهيم البليهي الجاهل بأنّه ليس من لا يعلم، بل من يعلم ولا يعمل بما يعلم.
عندما قرأت مقال "عمان بين الخليج وإيران" للكاتب السعودي عبد الرحمن الراشد، رئيس تحرير مجلة المجلة السعودية سابقًا، والمدير العام السابق لقناة العربية السعودية، ورئيس تحرير سابق لصحيفة الشرق الأوسط السعودية والتي تصدر من لندن. والمذكور إعلامي ومثقف سعودي محسوب على التيار الليبرالي في الأوساط الثقافية السعودية والوسط الشعبي، تذكرت العبارة العلمية أعلاه للمفكر د.البليهي في وصف وتوصيف الجاهل.
نشر مقاله في صحيفة الشرق الأوسط العدد (13839) الصادر بتاريخ 18 أكتوبر 2016م. وحمل الكثير من الغلظة اللفظية والتضليل الفكري، و"الصدق" كذلك من خزين العقل الباطن للكاتب ومن أوعز له، من مشاعر حقيقية يكنونها للسلطنة قيادة وحكومة وشعبًا، كون العقل الباطن لا يكذب ولا يستطيع الانسان التحكم به أو الإملاء عليه، كالعقل الظاهر والذي يُظهر عكس ما يبطن في العادة والسيطرة عليه.
رغم أنّ الأستاذ عبدالرحمن الراشد أتيحت له في حياته الوظيفية فرص قيادة منابر تعلم وتنوير لم تتح للملايين من أقرانه، إلا أنّ مقاله عن السلطنة يُمثل شهادة صريحة وإقرارا كتابيا منه لخلو عقله من أي علم أو معرفة أو دراية بالسلطنة وتاريخها وثوابت سياستها ولا بالسياسة ومقتضياتها ولا بمجلس التعاون الخليجي "ومنجزاته" العملاقة والتي صٌنفت من عجائب الدنيا "الثمان"!!.
حتى لو أقر واعترف عبد الرحمن الراشد وأقررنا معه بأنّه مجرد عبد مأمور وقلم وظيفي، فإنّ هذا أمر مشين لشخصه ولرسالة القلم ومهنية الإعلامي.
يقول الراشد في مقاله (للذين لا يفهمونها، عٌمان دولة غامضة، مع إنّه يمكن تبسيط أسس سياسة السلطنة الخارجية، على الأقل كما نفهمها، في كلمة واحدة، العزلة. حكومة مسقط اعتزلت الدخول في النزاعات الإقليمية لعقود، وإن كانت لها مواقفها التي تعبر عنها).
وهنا إقرار كتابي واعتراف من الراشد بأنه يفهم عٌمان خلاف غيره، وأنّ للسياسة الخارجية العٌمانية "أسس"، اختصر الراشد تلك الأسس (بلغة الجمع) في كلمة العُزلة، ثم أردفها بالإقرار باعتزال السلطنة الدخول في النزاعات الإقليمية، وإنّ لها مواقفها المعبرة عنها.
من الجميل أن يعترف الراشد بأنّ للسياسة العٌمانية أسسا، وأن السلطنة اعتزلت الدخول في النزاعات الإقليمية لعقود، والسؤال للراشد ما العيب في وجود أسس للسياسة واعتزال النزاعات!!؟ وما قولك فيمن لا يفهم أسس السياسة؟ ويحشر أنفه في كل نزاع تطوعًا وبلا طائل!
نعم أخي عبد الرحمن، فنحن في سلطنة عُمان نقر ونعترف ونحن بكامل قوانا العقلية والنفسية والجسدية، وزادنا التاريخي والحضاري، ورسالتنا العربية الإسلامية الإنسانية بأننا نعتزل الدخول في النزاعات الإقليمية والدولية – ما لم تٌفرض كراهة علينا - وسنبقى على العهد إلى يوم يُبعثون.
ثم يقول الراشد (ولا تستطيع كل الدول أن تتبنى المنهج العماني لأنّ معظم النزاعات تفرض نفسها). ونحن نسأل الأستاذ الراشد عمّن خوله الحديث باسم "كل" الدول؟ ومن الذي أفهمه بأن النزاعات هي من السنن اللازبة للإنسان والبشرية؟ وأخفى عنه رسالة الإنسان وتكليفه في الإعمار والمحبة والسلام!؟
هل خانتك الذاكرة أخي عبد الرحمن ونسيت مشاركة وحدات الجيش السلطاني العماني في تحرير الكويت عندما فُرض علينا النزاع!؟ وهل تغضبك ممارسة السلطنة لسياسة السلام و"صفر مشاكل"!؟.
هل البحرين أخي عبد الرحمن مهددة بتغيير نظامها السياسي أم بالعبث بمكوناتها الديموغرافية والطائفية وتعريض سلمها المجتمعي لخطر عابر للأجيال وجعل عروبتها على المحك!؟ والعارف لا يُعرف.
أين أقلامكم أخي عبد الرحمن ودموع تماسيحكم و"نخوتكم" و "فزعتكم" على الجزر الإماراتية الثلاث في عهد شاه إيران!؟
من قال لك أخي عبد الرحمن إن السلطنة لم تغضب أحدا من جيرانها في مجلس التعاون وإيران؟ أليس مقالكم هذا من علامات الغضب!؟ وهل سألت الساسة في إيران عن رضاهم التام عن كل سياسات السلطنة تجاههم وخاصة في فترة الحرب العراقية الإيرانية؟
وماهي الحظوظ التي جنتها عمان من الانتماء لمجلس التعاون الخليجي دون غيرها من دول المجلس!؟ وهل أنت على يقين بأن أقطار الخليج جميعها لا تزال مسالمة!؟
الحمد لله أخي عبد الرحمن أنك عدت لرشدك وصوابك وأنت الراشد في قولك: (وهذا لا يقلل من حكمة السلطان قابوس، الذي تمسك لعقود طويلة بسياسة النأي عن الصراعات والمحاور، وابتعد عن إلزام بلاده بأي موقف قد يكلفها ثمنًا).
ماذا تقصد أخي الراشد من قولك: (إننا لا نعرف دولة في العالم تستطيع أن تعيش بسلام فقط لأنها اختارت ذلك) و (حياد عُمان أيضًا من قرار جيرانها الإيرانيين والخليجيين، مع أنّه لا تخلو تعاملاتها الخاصة مع النظام الإيراني من انزعاج عند جيرانها الخليجيين. لكنهم جميعًا حريصون على استقرارها).
هل تعلم أخي عبد الرحمن أن سلطنة عُمان أقدم كيان سياسي في الوطن العربي؟ وأن هذا الكيان السياسي المتكامل الأركان والسياسات والمعالم في قواعد السياسة المعاصرة عمره يزيد على ألفي عام؟ هل تعتقد أخي عبدالرحمن بأن كيانا بهذه العراقة والجذور العميقة في التاريخ والتجربة المتراكمة لقرون بحاجة إلى من يهديه صفة الحياد ويقرر له الاستقرار من عدمه!؟.
الحياد والاستقرار أخي عبدا لرحمن ليست أمانٍ تردد ولا أحلاما تنسج بل سياسات تُبنى بحرفية عالية ودهاء عميق مستلهم من إرث حضاري مرن وعابر للأجيال.
هل تعلم أخي عبد الرحمن أنّ تحييد السلطنة هو قرار وقناعة دولية تتعدى الحدود وأنّ ذلك القرار وتلك القناعة نُسجت بعقول وإرادة عُمانية ثم سوِّقت بدهاء للعالم.
مشكلتنا في السلطنة أخي عبد الرحمن - من منظور الآخرين بالطبع – أننا لا نؤمن بعقلية البُعد الواحد في سياستنا ولا في قاموس ثقافتنا، فنحن ننظر للعالم كطيف واسع متعدد الأبعاد والملامح والأشكال، والعاقل من يستطيع التكيف مع هذه الفسيفساء الهائلة من حولنا، كما أننا نقر ونعترف ونحن بكامل قوانا العقلية والنفسيّة بأننا لا نجيد سياسة اللعب بالبيض والحجر ولا نرغبها على الإطلاق.
نحن الآن أخي عبد الرحمن بلا شك مختلفون في وجهات النظر تجاه جملة من القضايا الإقليمية، والاختلاف عند العقلاء ثراء وتكامل، فالناس بخير ما اختلفوا فإن تساووا هلكوا، فالأحياء يتدافعون ويختلفون فالناس لا تتساوى إلا في المقابر.
وما بين الاختلاف والخلاف خيط رفيع وهناك من يدفع في المنطقة بالأوضاع إلى الخلاف والتناحر عبر ترويج فهمه الخاص للاختلاف وتوصيف طبيعة الأمور.
نحن في السلطنة أخي عبد الرحمن نعاني من "فوبيا" مزمنة في سياستنا الخارجية وهي أنّ نكون تابعا لأحد، نحن نتعاون نعم، ونحالف نعم، ونتنازل للصالح الخليجي والعربي والإسلامي والإنساني نعم، ولكننا نشعر بالحساسية المفرطة تجاه دعوات كونوا معنا أو سيروا خلفنا بالترهيب أو بالترغيب، كما أننا لا نؤمن بالفجور في الخصومة ونتحاشى ذلك لأنه ليس من ديننا ولا من صميم أخلاقنا.
اختلفنا مع الأشقاء في اليمن الجنوبي ثم تصالحنا، وسمونا فوق كل الجراح والمؤامرات وطوينا الصفحة وبدأنا صفحة جديدة ومن أول السطر، وقفنا مع مصر عام 1979م دون أن نستشير أحدا أو نتبع أحدا، وتحملنا نتائج قرارنا، بذلنا كل جهودنا للسيطرة على نطاق الحرب العراقية الإيرانية ثم بذلنا مساعينا الحميدة بقبول الطرفين لوقف إطلاق النار، وكان للسلطنة الدور الأكبر في إنضاج قناعات الطرفين وتوقيع اتفاق جنيف في 8/8/1988م.
واستقبلنا جميع الأطراف واستمعنا لهم بعد احتلال الكويت، وشاركنا بجيشنا في تحرير الكويت، جنّبنا المنطقة والعالم دمارًا لا يعلمه إلا الله بجمع أطراف النزاع في الملف النووي، ولازالت عقولنا وقلوبنا وستبقى مفتوحة لكل مسعى خير وسلام.
مشكلتنا الحقيقية اليوم أخي عبد الرحمن لا تكمن في اختلاف وجهات النظر وتباين الآراء وتعددها كظواهر صحية، بل إننا في زمن اختلطت فيه التوصيفات وتبدلت التعريفات ولم تعد هناك خطوط حمراء ولا ثوابت مقدسة ولو بحدها الأدنى، فما أراه أنا خروجًا على شرعية الدولة وهيبتها تراه أنت ثورة، وما أراه أنا مطالب إصلاحيّة سلمية تراه أنت خروجًا على ولي الأمر، وما أراه أنا إرهابًا تراه أنت جهادا، وما أراه أنا أسسا، تراه أنت تقاعسا، تمامًا كما خلطت بين النأي بالنفس والعزلة، فالعزلة لا تنجب الحيادية ولا تجلبها مطلقًا.
المشكلة الثانية أخي عبد الرحمن تكمن في أننا في السلطنة نعلم بيقين معنى الحروب وتداعياتها على الحرث والنسل والأجيال المتعاقبة، ونعلم عن شرور الأحقاد والثأرات والانتقام، ونعلم عن دول الأيام بين الناس، وهذا من واقع تجارب تاريخية ومعاصرة عشناها، لذا فإننا نعف عن أن نكون طرفًا في إزهاق روح أو قطرة دم واحدة أو هدم جدار منزل واحد ما لم يُفرض علينا ونُدفع قسرًا لذلك، فالحروب والخصومات والأحقاد ليست متعة ولا ملاذا لسوي واحد على وجه الأرض، فجميعها مفاسد مدمرة عابرة للأجيال والحدود.
وفي الختام أخي عبد الرحمن أقول وأذكر بأن عٌمان باب سلام فلا تغلقوه ولا تقلقوا منه، ومعين عطاء خير لا ينضب فلا تدنسوه، وزاد تاريخ عميق فلا تتجاهلوه، وكل ما أتمناه منك وأمثالك أن تعمل بما تعلم..
وبالشكر تدوم النعم ،،،