من وحي الذاكرة "9"

 

علي بن كفيتان

 

في إحدى المساءات الجميلة في قريتنا (أمبازجه) حيث كان رجال القرية كل عصر عند العم مسعود بن رعوف – رحمه الله – الكل يحتسي الشاي العصري أمام البيت بينما العم مسعود جالس في عتبة بيته وبجواره العم سعيد زيدي والعم محيسن بن افصحوت والعم رجب المشيخي والعم سالم حرقوز – رحمهم الله جميعا وأسكنهم فسيح جناته – كما كان يحضرها العم علي بن العبد والعم سلطان بن أحمد – أطال الله في عمرهما - في تلك الحلقة نجتمع نحن الأطفال عند الرجال ونسمع أخبارهم ونحصل على شاي خصوصي لا يجيده أحد إلا أسرة العم مسعود المشهود لها بالكرم وحب النظام والنظافة والتميز، كان أبو محاد رجلا خلوقا عظيما وبالرغم من معاناته طوال عمره من مرض عضال في رجله إلا أن الابتسامة والترحيب لا تكاد تفارق محياه، فهو بقامته الفارعة وشعره المتدلي على كتفيه حاملا بندقية "الافن" رمز من رموز منطقتنا، فقد اشترى السيّارة الثانية في المنطقة وكان أول من أحضر التلفاز لقريتنا رحمه الله.

وهناك حلقة أخرى في القرية يستضيفها الجد علي بن سعيد نيشر - رحمه الله - فهو رجل رحيم وخلوق وعظيم.. لم أره غاضبا طوال عمري، ولديه من الحكمة ما يجعله سعيدًا طوال حياته - رحم الله أبا بخيت - ونحن نتجول بين تلك الحلقات فنجد الشعر والأدب الريفي، ونسمع الأخبار، ويحترم الجميع وجودنا إلا في الأيام التي نبدي فيها بعض شقاوة الأطفال المعتادة عن طريق ترويع العجول لكي نراها تركض، أو نلعب بالماء عن طريق ملء أحواض علف الأبقار بالمياه والسباحة فيها وهي سباحة عجيبة فالحوض عمقه لا يتجاوز بضعة سنتميترات ولكنّها كانت شيئا شبيها بالسباحة، وهنا تجري معارك بيننا فكان الجميع يحب أن يغمس طرف رجله أو حتى أصبعه في هذا الحوض الذي يبدو فيه الماء أشبه بالوحل، وتطغى عليه مادة العلف الحيواني، وكانت نساء القرية يشتكين منّا للرجال الذين يكتفون بالملامة البسيطة، حيث كان الأطفال قليلين، ولهم غلاء خاص في ذلك الوقت. ونذكر من رفقاء الدرب في تلك المرحلة حسن محاد دبلان- محمد محيسن أفصحوت – أحمد سعيد الوفخي – سعيد مسعود معشاق – سهيل محاد منح.

كنت في تلك الفترة أقوم بدور الراعي لإخواني في ظل غياب والدي إما في المناوبة العسكرية في قوات الفرق أو عندما يذهب لرعي الأبقار وسقايتها، بينما كانت أمي تقوم بمهمّات كثيرة في المنزل، ومن ثمّ تذهب لجمع الحشائش لصغار العجول، وكانت لديّ مهمّات شاقة؛ فإخواني - حفظهم الله - في سن متلاحقة، فالأول لديه هواية عجيبة وهي تسلق الأشجار وهو بارع في هذه المهارة فلا توجد شجرة مهما ارتفعت إلا وقد تسلقها حتى يظهر رأسه من أعلاها وكانت هذه الميزة توفر لنا محصولا وفيرا من ثمار التين البري؛ إلا أنّها لا تخلو من المخاطر. وفي إحدى الأيام حدث ما كنّا نخافه فقد سقط أخونا من أعلى شجرة تين في القرية وقدر الله أن تخفف الأغصان من وطاءة "الطيحة" كما حاولت أنا في الأسفل استلام الجسم الطائر الذي نجاه الله مع إصابات متوسطة.

من المحطات الجميلة في تلك الفترة قدوم عجوز إلينا تسمى (طفول أهرات) تلبس نظارة طبية، وقضاؤها فترة طويلة معنا وهي تجلس مع جدتي رحمهما الله، فهي عجوز طيّبة ولا أعرف سبب قدومها إلينا بشكل منتظم سنويا إلى اليوم، فلا يربطنا بها نسب، ولكن الظاهر أنّها كانت صديقة جدتي، وعندما تجتمعان يكون حديثهما عن الدين والأخلاق، ولم أرى جدتي سلطانة تجلس مع امرأة أخرى إلا مع الجدة طفول..

وكنا نستمتع بالخبز اليابس الذي تجلبه معها فهي امرأة طيبة وكريمة، وكانت تعلم بنات ونساء القرية سنن الوضوء والصلاة رحمها الله.

في عصر اليوم التالي بينما كان الجميع في حضرة بن رعوف وردنا خبر أليم وهو وفاة الشيخ محاد بن علي فالت، العم محاد هو شيخ القبيلة، كان أبا سهيل رحمه الله عائدا من صلالة إلى طيطام في سيارة بيت فورت عسكرية تابعة لقوات الفرق، ونظرًا لوعورة الطريق تدهورت السيّارة وتوفي رحمه الله. في اللحظات التي تلقينا فيها الخبر الكل جلس حائرًا، والنساء أرخين العنان لدموعهنّ بينما الرجال حملتهم سيارة أبي محاد وسيارة سعيد سالم لحضور الجنازة وواجب العزاء في وفاة الشيخ، ربما الكثير من الناس لا يعرف الدور البارز الذي لعبه الشيخ محاد في تلك المرحلة العصيبة، وذلك نظرًا لوفاته المبكرة، ولكنّي لا زلت أذكر مواقفه الخيرة لجمع الناس خلف السلطان، وزرعه للمحبة بين الجميع في المنطقة ومن مختلف القبائل، ولا زلت أذكر روحه المرحة وابتسامته الدائمة فكان يحنو علينا صغارًا ويجلس على الأرض ليسلم علينا ويداعبنا، ولا يحضر بن علي فالت جلسة إلا تسيدها بروحه الطيبة المرحة ومواقفه النبيلة.

لقد كان يومًا حزينا في كامل المنطقة حيث توافد أناس كثيرون لا نعرفهم للتعزية، فيهم كبار ضباط الإنجليز، وقادة أمنيين وعسكريين وشيوخ قبائل، ولم أر أهلي يفقدون رجلاً كما في ذلك اليوم، حيث حضروا جميعا، وأكبر مشهد أثّر بي هو دموع القائد حسن بن محاد صيراد (قائد فرق المنطقة) التي ذرفها، والحسرة التي كانت تبدو على وجهه على فقدان بن علي فالت، فذهبت إليه وجلست بجانبه رحمه الله، فقال لي لا تخف يا بني أنا فقط أشكو من ألم في عيوني، وهو بهذه الكلمات يريد أن يخفف عليّ ويهدئ من روعي، فأنا لم أر أبا أحمد باكيا من قبل؛ فقد عرفته قائدًا محنكًا وجبارا ورحيمًا في ذات الوقت، وكنت أجده صديقا لي رغم صغر سني.

رحم الله هذه الهامات العظيمة التي صنعت السلام، وضحت بأرواحها رخيصة فداء للوطن وطاعة للسلطان.

 حفظ الله عمان وأدام على جلالة السلطان نعمة الصحة والعافية.

 

 

 

alikafetan@gmail.com