د. سيف المعمري
في ظهيرة أحد أيام شهر مارس من عام 2007م قابلت أحد متخذي القرار في وزارة التعليم العالي بعد عدة محاولات، وبعد أن ظننت أنني لن أوفر في استكمال البيانات الخاصة بموضوع أطروحة الدكتوراه التي تتطلب الكشف عمّا يدور في رؤوس متخذي القرار حول إدماج المواطنة في برنامج إعداد معلمي الدراسات الاجتماعية، وبعد أن رحّب بي في مكتبه قال لي مازحا عبارة استرجعتها هذا الأسبوع؛ حين دعيت للمشاركة في مناقشة موضوع التسرّب في التعليم في برنامج ملف الأسبوع في تلفزيون سلطنة عمان، قال لي: أنت محظوظ لتكون شاهد عيان على غروب مرحلة ستثبت الأيام خطأ ما اتخذ فيها من قرارات، وكان يقصد قرار تحويل كليّات التربية إلى كليّات تطبيقية في انقلاب تعليمي أبيض قاده يومها المسؤولون على شؤون التعليم؛ بناء على قراءات قصيرة المدى للواقع التعليمي، وبناء على ضغط من رجال الاقتصاد يومها الذين كانوا يطالبون الحكومة بالتوسع في التخصصات الهندسية والتجارية والتقنية رغم أنّهّم يدركون أنّ السوق ضيقة، وأنّ شركاتهم قائمة على الاستعانة بالعمالة الخارجية ذات الأجور المنخفضة، وأثبتت الأيام ذلك للمسؤول وكثيرين ممن يتفقون معه؛ حيث أعلن في هذا الشهر عن ترك عشرات الآلاف لمقاعد الدراسة في هذه المؤسسات غالبيتهم في هذه التخصصات التي تم التوسع فيها ليس في الكليات التطبيقية إنما في الجامعات والكليات الخاصة، وبغض النظر عما يكتنف هذه الإحصائية من غموض في الأسباب والتفاصيل إلا أنها تعد مؤشرا على الإشكاليات التي يمر بها التعليم العالي سواء اعترف القائمون عليه بذلك أم لم يعترفوا؛ فالواقع يكشف عما لا يقال، ويفصح عما ينكر، وحين يعتقد البعض لأوهام في أنفسهم أن أي حديث عن هذه الإشكاليات هو استهداف لقراراتهم، ونقدا غير مسموح لها، سواء كانت صائبة أم كانت خاطئة، وهنا تكمن الإشكاليات الحقيقة للتعليم في بلدنا.
إنّ الهجرة المعاكسة بالآلاف لطلبة التعليم العالي هجرة لم تحدث من قبل، ولذا لابد من التوقف عندها وأسبابها الحقيقية التي تتعدى ما ذكر فيما نشر حول هذا الأمر من قبل الصحافة المحلية، لأننا مقبلون على تحديات كثيرة في مؤسسات التعليم العالي، لأننا ندافع بشراسة عن كل القرارات، ونتمسك بها حتى لو أظهرت الأيام آثارها السلبية، والأمر لابد أن ننظر له بمنظور أوسع، لكي نحدد الأسباب المحركة للأحداث بدلا من أن نتعامل مع النتائج، ومن وجهة نظري هناك ثلاث أسباب سوف تعيق التطور في مؤسسات التعليم العالي، سوف أوجزها فيما يلي:
أولا/ ضبابية دور المرجعية المنوط بها التخطيط لبرامج التعليم العالي وسياساته، وحتى بعد أن أنشئ مجلس التعليم لا يزال الدور الذي يقوم به في قيادة مسيرة الإصلاح غير واضح، ولا تزال كثير من القرارات التي تتخذ بشأن قضايا جوهرية تتم في إطار المؤسسات نفسها وتتصادم مع سياسات أخرى، رغم ما يبدو من تنسيق ظاهري حولها.
ثانيا/ ضعف ديمقراطيّة اتخاذ القرار في المؤسسات التعليميّة، فمرتكز اتخاذ القرار يتداول بين أفراد دوائر صغيرة، يتناوب أفرادها لشغلها، بناءً على عوامل الالتقاء في المصالح المشتركة لا على عوامل الكفاءة والجدارة التي تتطلب وثائق وأدلة تثبت ذلك، وما لم تخرج المؤسسات إلى بيئة ديمقراطية تقوم على الجدارة والانتخاب ستظل مؤسسات التعليم أقل ديمقراطية في إداراتها من بقيّة المؤسسات، وسنعمل شيئا فشيئا على بناء قبيلة إدارية لمؤسسات التعليم يدافع أفرادها عن بقائهم حتى وإن كان ذلك على حساب تطور التعليم؛ من أجل تجنب خروج هذه الأعداد وغيرها من مقاعد الدراسة.
ثالثا/ خصخصة التعليم التي لا تزال نهجا لا رجوع عنه حتى بعد كل ما يكشفه الواقع عما يجري، وكأن الخصخصة كانت غاية من أجل توسيع نطاق النشاط التجاري لفئة من رجال الأعمال والمسؤولين، وكأن التعليم بات سلعة يعرضها كل من امتلك رأس المال بغض النظر عما يقدمه من جودة، ولذا لا نستغرب ارتفاع نسبة الذين خرجوا من المؤسسات الخاصة عن أولئك الذين خرجوا من المؤسسات الحكوميّة، وأخشى أن يكون التقويم الموضوعي هو الضحيّة في كثير من المؤسسات الخاصة من أجل الاحتفاظ بالبعثات الداخلية، فأي إشكاليّة تخلق لمستقبل عمان داخل هذه المؤسسات؟
إننا بحاجة إلى مراجعة جادة ومصادقة لمؤسسات التعليم العالي ونحن بدأنا مرحلة اقتصادية مختلفة يتزايد فيها الاعتماد على الإنسان أكثر من الاعتماد على النفط فأي إنسان نعده لمواجهة هذه التحديات والعمل على صناعة التنويع الاقتصادي، وكيف نستطيع تلافي ما ورد في كثير من الدراسات التي عملتها مؤسسات التعليم مع البنك الدولي ومنها تلك الدراسة التي حضرت تدشينها في عام 2012، هل بهذا النهج الذي تمضي عليه كثير من مؤسسات التعليم حاليا؟ أتصور أنّ مؤشرات كثيرة تتكشف شيئًا فشيئًا تؤكد استحالة ذلك؟