الخطيل .. لوحة الإبداع والوفرة

 

 

سالم الكثيري

 

تُشير كلمة "الخطيل" إلى تحرُّك قطعان اﻹبل من السهول إلى قمم الجبال بعد أن مكثت طيلة فترة الخريف بعيدًا عن مناطق الرعي حيث يتم الاكتفاء برعيها قديماً في المناطق البيعدة نسبياً عن تساقط الأمطار وحبسها - غالباً - في "اﻷحواش" حالياً إلى انتهاء موسم الخريف وعمومًا تخطل اﻹبل شعاب ووديان رئيسية من حاسك شرقاً إلى ضلكوت غربًا.

 

وللخطيل طقوس وأحكام وأعراف يتقيد بها الجميع، فما أن ينزح أهل الإبل من الجبال إلى السهل جنوبًا أو "القطن" بفتح القاف، أي المنطقة المُحاذية للجبل من الشمال بحسب الطبيعة الجغرافية لكل منطقة ويؤذن الخريف بالدخول حتى يتجدَّد قرار منع الرعي تلقائياً وهو ما يُطلق عليه في العُرف "التحديد" أي تحديد مكان وزمان الرعي في الجبال والسهول ذات الكثافة النباتية التي تتساقط فيها الأمطار بغزارة وهو أمر لازال معمول به إلى اليوم ولهذا يستمر هذا المنع الذي يقره الجميع طيلة فترة الخريف بحيث لا تؤثر عملية الرعي على نُّمو الأشجار والأعشاب.

 

بنهاية موسم الخريف تحن النوق إلى مواطنها، فيقفل أصحاب الإبل راجعين من "مخارفهم" - وهي الأماكن التي يسكنونها أثناء فترة الخريف - إلى أقرب منطقة لسفوح الجبال "كزيت"، حيث تبدأ عملية الرعي تدريجيًا في منطقتي "السهل والقطن" كونهما المناطق الأسرع جفافًا مع الانخفاض التدريجي للأمطار. وهنا تغدو الإبل صباحًا للمرعى وتؤوب مساءً وقد جرت العادة أن ينتظر إيابها الجميع سواء في الزمن الماضي أم في زمننا الحاضر، فقديماً على سبيل المثال كان كبير السن الذي لم يعُد بمقدروه قضاء يومه بمعيتها يُشنِّف أسماعه "بحنين" بكرته الأصيلة التي عادت تقبل رأس راعيها قبل وليدها وتنفث أنفاسها المعطرة برائحة الأشجار في وجهه لتذكره بأيام جميلة قد خلت وتشحذ فيه أملاً وتفاؤلاً نحو الحياة. فيما تترقب الأم وصول الناقة المدرة للحليب علَّها تظفر برشفة لأبنائها الصغار، وحول موقد النار قد تحلَّق عشرات الضيوف من المدينة ومن الجبل وغيرهم من "الخطار" أي المارة العابرين للسبيل والذين يرحب بهم أيما ترحاب، أما في أيامنا هذه فالسياح وهواة التصوير والباحثون عن التأمل وهدوء النَّفس وراحة البال هم أكثر المنتظرين لمثل هذا المنظر الأخاذ.

ويُشكِّل إياب الإبل من المرعى قُبيل المغيب لوحة إبداع متفردة الجمال، حيث خيوط الشمس المنعكسة على بساط الخضرة الذي تتحرك عليه آلاف الإبل وسط غابات من الأشجار في إتزان وانتظام لتصل إلى مباركها دونما عناء. فتبدو الصورة كأنَّ الأرض هي التي تتحرك، كما يقول المثل في لغة أهل الجبل "أتيبغود شيسن ديني" .

ثم يُعلن "الخطيل" ويحدد بيوم معروف يتفق عليه الجميع فتتوجه الإبل في قطعان باتِّجاه الجبل وهنا إشارة إلى بداية موسم الربيع "الصرب" كما يطلق عليه محليًا، أي موسم الحصاد والذي يُصاحبه الغناء وفن النانا والهبوت والمشعير في الليالي المقمرة، وهو موسم الاكتفاء الذاتي ورد الجميل وتسديد الديون والوفرة في كل شيء. ولعل حليب النوق برغوته البيضاء كالثلج يمثل عنوانًا لهذه الوفرة بالإضافة إلى غيره من المُنتجات التي يتم حصادها في هذا الموسم والتي كان يعتمد عليها قديمًا كأهم مصادر الغذاء كالذرة والبقوليات والخيار والبيضاح وتستعاد في وقتنا الحالي كنوع من الموروث الذي يُذكرنا بالماضي.

 

لازال المجتمع يراعي أعراف "الخطيل" وإن استجدت عليها بعض المُستجدات فلم تعد الأرض بكراً كما كانت ولم تعُد الإبل ترعى طيلة الموسم بل إن قضاء شهر قبل العودة إلى الأعلاف المصنعة يعتبر مدة طويلة بمقاييس اليوم. هذه لمحة عامة وغير مكتملة عن هذا الموروث الذي يصاحب موسم الربيع في محافظة ظفار ولا شك أنّها بحاجة إلى من يبحث فيها بعمق من مختلف الجوانب والتفاصيل.