جاستا.. ما قبله وبعده؟

 

د/عبد الله عبد الرزاق باحجاج

كيف أثار قانون جاستا الذي يسمح بمقاضاة الدول التي تورط مواطنوها في اعتداءات الحادي عشر من سبتمبر الأنظمة الخليجية وعلى رأسها السعودي على عكس التهديدات الأمريكية الوجودية للأنظمة الخليجية التي سبقت جاستا؟ هُنا ينبغي القول صراحة – وقد قلناه في كتاباتنا الخارجية وأشرنا إليه داخلياً – أنَّه كان هناك ما هو أسوأ من جاستا، وهو الخيار الأمريكي الغريب والعجيب للأنظمة الخليجية: إجراء مصالحة تاريخية بين الإسلام والحداثة مُقابل استمرار وجودها  السياسي، أو العكس، والمصالحة مشروطة بتكرار تجربة المُصالحة التاريخية التي جرت منذ عدة قرون بين المسيحية والحداثة الغربية، فهل تملك الأنظمة الخليجية قرار تجريد الإسلام من حياته الاجتماعية؟ وما هي طبيعة الخطوة الخليجية التالية بعد جاستا؟.

في منتدى الدوحة الأخير، كشف لنا المُفكر الأمريكي المشهور جون ميرشايمر أنَّ واشنطن لم تعد تُفكر في تغيير الأنظمة الخليجية، فقد قال في قاعة تضم أكثر من (500) شخص- حرفيا-،، إنّ دول الخليج العربية يجب أن تشعر بالسعادة الآن،  لأنَّ أمريكا لم تعُد تُفكر بتغيير أنظمتها،، وهذا بدأ وكأنّه تراجع أمريكي عن تلك التهديدات، وهذا يعني أنَّ واشنطن قد تُفكر مجدداً، ولم يستغرق هذا الانكشاف طويلاً من الزمن حتى فجَّر الكونجرس الأمريكي قنبلة جاستا المُثير للجدل، فهل ينبغي على دول الخليج العربية أن تثق بأمريكا بعد الآن؟ أو ترهن مستقبلها على الحماية الأمريكية؟ لقد تعرَّت واشنطن للشعوب سابقاً والأنظمة حاليًا، فهي لم تعد القوة التي يُحسب حسابها لصالح دول الخليج العربية وعلى رأسها السعودية في كل المُعادلات الإقليمية والعالمية، كما كانت سابقاً، فهل سنرى فعلا يؤرخ تاريخيا؟. لم يعُد للخليج من خيار سوى الفعل، فأمريكا قد انتقلت من مرحلة الانزعاج الدائم للخليج إلى مرحلة تهديد الوجود المتصاعد، وهذا يُدلل على غطرستها وعدم تقديرها للمُتغيرات والتحولات الكونية والإقليمية، فهل يُعقل أن تطلب من الأنظمة المستحيل، فالأنظمة تعلم يقيناً مركزية الثيولوجيا (الدين) في ديموغرافيتها على عكس الدول الأوروبية التي وجدت بعد حروب دموية طاحنة الفرصة مواتية لتحويل الدين إلى مجرد علاقة شخصية بين الفرد وربه، ولا حق له في السياسة والعلم والاقتصاد ولا في نطاق الجماعة، وقد نجحوا، من هنا أرادوا نسخ هذا النجاح داخل المنطقة، ولما فشلوا في التغيير والمصالحة، يفتحون الآن، الحرب القضائية والمالية على كبرى دول المنظومة الخليجية، من أجل ابتزازها مالياً، لأنَّها الأكبر في أرصدتها المالية والاستثمارية، ولأنَّ وراء ذلك أهدافاً سياسية ذات بُعد مذهبي، الذي يهمنا هنا الخطأ الإستراتيجي الذي أوقع الكونجرس الأمريكي بلاده فيه دون حسابات دقيقة لطبيعة المرحلة الكونية الراهنة، فهو لم يفقد الثقة السياسية والاستثمارية في أمريكا فقط، ولا يقدم قضاءه وقوانينه فوق القضاء والقوانين الوطنية  فقط، وهو لا يحطم السيادات الوطنية ويعلي من السيادة الأمريكية فقط،  وهو لا يفتح أبواب المساءلة والمحاسبة العالمية ضد أكبر بلد مرتكب للجرائم الإنسانية فقط، بل إنّه يفتقر للوعي السياسي بماهية المُتغيرات الكونية التي بدأت تمس مناطق نفوذ أمريكية تقليدية، وبدأت تدق ناقوس الخطر على استمرار أمريكا كالقوة الأولى عالمياً، إننا نتحدث هنا على وجه التحديد عن الصين، هذه القوة الاقتصادية الثانية عالمياً بعد أن أزاحت ألمانيا، وأصبح المركز الأول حلمها، هل فعلاً وراء سوء التقدير الأمريكي للمصالح الأمريكية في الخليج الغرور الأمريكي بقوتها واعتمادها المطلق على عملائها الذين كونتهم لخدمة مصالحها في المنطقة بصورة مستدامة؟ لو تمعن الأمريكان قليلاً في التحولات الداخلية التي حدثت في الصين في شهر يناير 2016، لما أقدموا على تهديد حلفائهم في الخليج، ولما غدروا بتعهداتهم التاريخية مع حليفهم الإستراتيجي الأول في المنطقة، لو كانوا يدركون أنّهم بكل ذلك، يهيئون المنطقة للنفوذ الصيني أولاً والروسي ثانيًا،  لما أصر كونجرسهم على قانون جاستا، وهنا ينبغي أن ندلل على ذلك بالتركيز سريعًا على ثلاثة تطورات صينية وقعت كلها في يناير الماضي فقط، وهذا التقارب الزمني للتحولات له دلالته وأبعاده التي ينبغي أن تؤخذ بعين الاعتبار والاعتداد، الأول، قرار إنشاء أكبر قاعدة عسكرية صينية في جيبوتي على بعد (13 كم) من القاعدة العسكرية الأمريكية، والثاني، صدور قانون الإرهاب، المثير فيه، إعطاء الجيش الصيني الحق في التدخل خارجيًا لمجرد الشعور بتهديد المصالح الاقتصادية الصينية في أية منطقة من العالم، هي الحرب الاستباقية، والثالث، صدور وثيقة العلاقات الصينية العربية قبل جولة الرئيس الصيني لإيران والسعودية ومصر في بداية العام الحالي، وهي تبين المحددات والضوابط لمُستقبل السياسة الصينية الجديدة مع العرب، وفيها تطمينات للعرب من الكثير من الهواجس السياسية، وفيها تذكير بعمق العلاقات الصينية العربية التاريخية – طريق الحرير أنموذجا - وعندما نصف تلك التطورات بالتحولات، فهي حقيقة وليست مجازاً، فمثلاً، التدخل العسكري الصيني في الخارج، فهذا فعلاً تحول عن سياسة الحياد التي كانت تنتهجها بكين طوال العقود الماضية، كما أنَّ ربط استخدام القوة العسكرية الصينية بالمصالح الاقتصادية الخارجية المتضررة، أو توقع تضررها، يفتح للدول الخليجية آفاقاً واسعة في كيفية كسب الصين اقتصاديًا، وجعل المصالح بينهما ذات قيمة حيوية متبادلة أكثر عمقاً، ومثل هذه التحولات قد انعكست إيجابا على مواقف الصين الإقليمية، مثلا تحول الموقف الصيني من الداعم للموقف الروسي الذي يجنح لصالح بشار الأسد إلى موقف يؤسس التوازن، وهذا ما تجلى في تقديم بكين نفسها كوسيط محتمل للأزمة السورية عبر دعوة ممثلي المعارضة ونظام الأسد لزيارة بكين، لكن، لماذا جيبوتي؟ هناك أهداف صينية مُعلنة وأخرى غير مُعلنة، ويظل موقع جيبوتي الإستراتيجي هو المستهدف من التوجه الصيني خاصة إذا ما ربطناه بمجمل التحولات الصينية الجديدة، فموقعها الإستراتيجي في منطقة القرن الأفريقي، يمثل منطقة آمنة للإبحار تجاه البحر الأحمر، تعبر فيها أهم الصادرات والواردات العالمية، ويستخدم الميناء كنقطة انطلاق الأساطيل الأجنبية المتواجدة في المنطقة بهدف مراقبة خليج عدن وحماية الممر المائي من عمليات القرصنة. وتُعد جيبوتي كذلك ذات أهمية كبرى كونها من المحاور الرئيسية للتجارة العالمية، إضافة إلى قربها من بؤر التوتر في أفريقيا وآسيا والشرق الأوسط.

فعلاً الصين تتغير بشكل جوهري، وتقدم نفسها الآن كقوة عالمية لديها الاقتصاد القوي والقوة العسكرية الرادعة، المُنتشرة في مناطق النزاع، والقادرة على الذهاب الى أيّ مكان لحماية مصالحها، والتخلي الأمني الأمريكي عن الخليج وقانون جاستا، يفتح الجغرافيا الخليجية للصين – اقتصادياً وعسكرياً – على مصراعيه، فكيف ينبغي أن تستفيد دول الخليج من الابتعاد الأمريكي عن المنطقة ومن محاولات القرب الصيني لها؟ الرهان الأحادي على أية قوة عالمية قد ولى، وبالذات أمريكا، بل الرهان على الأجنبي ينبغي أن يكون كذلك من الدروس المستفادة، بحيث يكون الرهان أولاً على تعزيز الكيان الخليجي الداخلي على كل الصعد؟ ومن ثم بناء منظومة تحالفات إستراتيجية مع القوى الإقليمية والعالمية على قدم المساواة وبما يخدم المصالح الخليجية بالدرجة الأولى، لكن وقبل ذلك، عليها التخلص من النخب التي صنعها الأجنبي لديمومة مصالحه، وعليها كذلك عقد قمة للتصالح المذهبي لكي يكون انطلاقتها في تعزيز كيانها بعد القناعات السياسية الجديدة، وستجد الشعوب الخليجية كلها معها، وذلك بمثابة قوة نووية لها، وما عداها ستكون أضعف من الضعف نفسه، إننا أيها الخليج في مرحلة الممكن في عالم مُتغير بصورة ديناميكية، فكيف تساهمون في إعادة صياغته؟ .