د. عبد الله عبد الرزاق باحجاج
هل يعلم صُنَّاع القرار في بلادنا أنَّ التحول الهيكلي وتنويع الاقتصاد العُماني، سيترتب عليهما في المُقابل، تحولات اجتماعية كبيرة؟ وهذه التَّحولات سيتم من خلالها إعادة صناعة المجتمع، لكن أيّ مُجتمع نريده مستقبلاً؟ وهل الصناعة الجديدة تتم وفق رؤية مُخططة ومنهجية منضبطة أم أنَّها متروكة لما ستسفر عنه عمليات التَّحول والتنوع من نتائج وتداعيات؟ فمُنذ منتصف عام 2014، والحكومة تتخذ سياسات مالية واقتصادية جديدة غير مسبوقة لمواجهة – ظاهريا - تداعيات الأزمة النفطية، فهل فكرنا في تأثيراتها الاجتماعية مستقبلاً ؟ يراجع مقال سابق لنا بعنوان" استشرافات مستعجلة".
من الأخطر أن نتركها – أي التحولات المجتمعية - تتشكل تلقائياً خارج نطاق الإرادة السياسية وتوجهاتها، ونركز فقط على التَّحول وإعادة الهيكلة من المنظور الاقتصادي فقط دون انعكاساته الاجتماعية، فأي مجتمع يتم صناعته الآن؟ وللإجابة على هذا التساؤل الهام جدًا، يقتضي منِّا التعمق قليلاً في عملية التَّحضير للتَّحول الهيكلي والتنويع الاقتصادي في بلادنا حتى نُحدد طبيعة الصناعة وموادها الخام التي تعتمد عليها في إعادة صناعة المجتمع، وبنظرة سريعة سنُلاحظ أنَّها تعتمد على مسارين متزامنين الآن بعد ما كان مساراً واحدًا فقط، الأول، رفع دعم الدولة عن المجتمع بكل فئاته، وفي مرحلة لاحقة سيتم حصر الدعم في حدوده الدنيا على الطبقة الفقيرة، فماذا عن الطبقة المتوسطة؟ وقلنا في مقال سابق إنّها الطبقة الوحيدة في أية دولة تشكل صمام أمان للاستقرار والأمن، ولنا تصور واقعنا الاجتماعي والسياسي بثنائية الطبقتين – الغنية والفقيرة – فقط، ومؤشرات هذا التحول المساري كثيرة لا تعد ولا تحصى، نستحضر منها، رفع الحكومة دعمها تدريجياً عن الخدمات الاجتماعية الأساسية، بدأت بالوقود ورفع رسوم الخدمات والمعاملات الحكومية .. وتلوح برفع الدعم عن الكهرباء والماء، وقريبًا ستُطبق الضريبة المُباشرة،، ولو طبقت هذه الضريبة فسيتأثر بها بنيويًا الشريحتان الفقيرة والمتوسطة، والمسار الثاني، التنويع الاقتصادي، وقد اختارت الحكومة خمسة قطاعات لكي تكون مصادر أساسية للاقتصاد العماني، وتحل محل النفط مستقبلاً، ويجري حالياً رسم خارطة تنفيذية يُعاب عليها تركيزها على ثلاثة قطاعات كمرحلة أولى عوضًا عن الخمسة، فلماذا لا يكون كل القطاعات الخمس؟ ليس هناك سبب يقنعنا أبدًا، بل العكس هذا يزيد من مخاوف الفشل، ويُعاب عليها كذلك، أنَّ الفاعلين كلهم أو بعضهم مهما كانت مواقعهم سابقاً وحاليًا – كانوا من عوامل فشل رؤية 2020، والآن يقع عليهم مسؤولية نجاح رؤية 2040، ويعاب عليها كذلك أن جلسات العصف الذهني قد وصلت إلى حالة النضوب قبل أن تنتهي من أسابيعها الستة، فكيف تم اختيار الكفاءات لهذه الجلسات وإدارتها ؟ وكيف غاب عنها القيادات العليا في الوزرات، والاكتفاء بمسؤولين فقط، إذن، هل نتفاءل في التنويع وإعادة الهيكلة؟ وهنا لم يعد التساؤل يطرح عن أيّ مجتمع تتم صناعته الآن، وإنما الهاجس أصبح عاماً يتجه الآن نحو مستقبل قوة الدولة الاقتصادية، وحمولتها الديموغرافية، يظل هذا هاجسًا مرتفعًا، رغم أن عوامل نجاح التنوع وإعادة الهيكلة متوفرة في كل القطاعات الاقتصادية نفسها، وهي اللوجستيات والتعدين والصناعة والسياحة والثروة الزراعية، من هنا فقد اختيرت الثلاثة قطاعات دون الخمسة لإمكانية تحقيق النجاح المضمون فيها حتى دون جلسات للعصف الذهني، لكنه قد يكون نجاحًا دون الطموح الوطني .. ومهما يكن، تظل قضيتنا قائمة وبقوة عن التداعيات الاجتماعية لتلكم التحولات، وفي جزئية المسار المالي التحولي لابد أن نطرح التساؤل التَّالي، هل وراءه فعلاً نقص الإيرادات المالية الناجمة عن الأزمة النفطية؟ منذ اندلاع هذه الأزمة، وموقفنا منها ثابت، وهو أنها وإن كانت أزمة حقيقية إلا أن وراءها هدفا إستراتيجيا آخر – غير مُعلن - وهو إعادة النَّظر في الكثير من السياسات السبعينية والثمانينية وما تلاها من حقب زمنية لم تتمكن السلطات من التخلص منها، إلى أن وجدت الفرصة مواتية مع الأزمة النفطية، ووجدت نفسها كذلك تحت ضغط دولي لمواءمة دور الدولة الجديد مع النظام العالمي، وهذه المرة المطلوب من دول خليجنا العربية الدخول الأكبر للنظام الرأسمالي العالمي الجديد، وهو،، النيوليبرالية،، وهي فكر آيديولوجي مبني على الليبرالية الاقتصادية التي هي المكوّن الاقتصادي لليبرالية الكلاسيكية والذي يُمثل تأييد الرأسمالية المطلقة وعدم تدخل الدولة في الاقتصاد، ومثل تلك السياسات المالية الحمائية تتعارض مع هذا النظام العالمي، وتجد الأنظمة الخليجية نفسها الآن مضطرة للانصياع تحت الضغط المالي وقوة البعد الدولي في مرحلته الراهنة، وهذا البعد يقدم لها التخلي عن دعم المجتمع كحل مالي مُبطن، وقد جاب خبراء صندوق النقد الدولي كل العواصم الخليجية منذ شهرين، وقدموا لها مدونة سلوك، نجدها أمينة في تنفيذها دون أن تدري أنّها ستقوض بذلك الأركان الأساسية لمجتمعاتها، وهذه الأركان هي التي صنعت مجتمعاً خليجيًا،،ولائياً،، مع أنظمته ومنتميا لدولته،، فهل الرأسمالية المطلقة تصلح لدول ذات حمولة ديموغرافية تاريخية ثقيلة وثيولوجية (دينية) متصارعة أحياناً ومتناقضة في حالات كثيرة؟ رأينا تداعيات تطبيق الخصخصة في بلادنا، والآن يبدو أنّه ستكرر معنا مع التحول الهيكلي الجديد، لسنا ضد التعاطي الكوني، لكن قضيتنا مع الغياب الذهني عن هذه القضية الاجتماعية هو الذي يُقلقنا كثيرًا، وهو الذي يدفع بنا إلى الإعلاء من شأنه في جل كتاباتنا حتى لا تكون صرخة في وادٍ سحيق، وقد تعمق هذا القلق في بنية قناعاتنا الآن بعد منحت وزارات سيادية ومجالس دستورية منتخبة ورئاسة مجلس عالي جداً العيدية لموظفيها وحرمت منها فئات الضمان الاجتماعي، فهذا أهم ملمح للغياب الذهني وتراجع الاهتمام السياسي بقضايا المجتمع التي لها انعكاسات مُباشرة على مستقبل الأمن والاستقرار في بلادنا .
هل نسميه غياباً ذهنياً أو فكريا أو تراجعا سياسيا .... الأهم هنا أن صناعتنا الاجتماعية يطرأ عليها تحولات هيكلية غير مسبوقة تمامًا، ليس من خلال التحولات الاقتصادية والمالية الجديدة سالفة الذكر، وإنما كذلك من خلال سياسات الانفتاح الجديدة التي تبدو لنا غير منضبطة تماماً، ففتح جغرافيتنا باتجاه آيديولوجيات تصديرية علامة فارقة على التحول – العبارات مثلا - كما جعل استدعاء ديموغرافيتنا بعدها الإقليمي، والتلويح به كقوة، فارقة أخرى، تحتم تطرح التساؤل التالي: الى أين نحن سائرون؟ هل من سيتوقف كثيرًا عند مثل هذه التساؤلات العاجلة؟ قد يكون للموضوع تتمة.