الساحل البشري

 

 

 

 أحمد الرحبي

لقد كان بالنسبة إلى الإغريق والرومان، البحر فراغًا من عدم، شيئاً يقطعونه بأقصى سرعة ممكنة للرجوع إلى حيث الموطن الحقيقي للبشر:الأرض، المسيحية تبعاً للتقاليد اليهودية، ستنظر إلى المحيط بسلبية كذلك، ولقد استغرق وقتاً طويلاً من الزمان اكتشاف حقيقة أن الأرض ليست جزيرة محاطة بنهر لا يمكن عبوره، ولكنها في الواقع مجموعة من الجزر والقارات المتصلة عوضاً عن كونها منفصلة مائياً، إلى أن يفقد البحر مواصفاته الشيطانية، غير أنّ الوضع سيستغرق قرنين آخرين قبل أن ينظر إلى الجزر على أنها نقطة العبور نحو التطور، وأن السواحل التي كانت ينظر إليها سابقاً على أنَّها عوائق، ستُصبح معابر، مميزات وليست عوائق.

لقد شكل البحر محيطه الذاتي، متكوناً بعيداً عن تحكم البشر، فكان صيد البحر يعتبر(هبة) للبشر، ليس لهم سوى أقل القليل من التحكم فيها، لم يكن شيئاً ليوقف البحر من الاستيلاء على حياة الإنسان كمساحة لا مكانية ولا زمانية، كان المحيط خارج كل جغرافية وخارج تاريخ البشر.

الزمان لايزال يبدأ وينتهي على اليابسة وبالأسلوب نفسه في الجغرافية يستمر في معاملة المياه على أنها خارج حدود موضع البشر، حتى أواخر القرن الثامن عشر، كانت السواحل أماكن يجب تجنب سكانها كان ينظر إليهم على أنّهم مخلوقات أقل من سكان الداخل، فالأماكن التي يلتقي فيها الماء اليابسة ويختلط بها هي ((معبأة بالفهم الخاطئ والمخاوف)). 

 إنّ علم المحيطات كان آخر العلوم الأرضية الوليدة، حيث الجغرافيين أعطوا القليل من انتباههم لسبعة أعشار سطح الكوكب المغطى بالمياه، وتجاهل المؤرخون كذلك المياه التي ربطت العالم ببعضه البعض: فبالنسبة إليهم، الزمن يبدأ وينتهي على أطراف اليابسة، لقد أستمر سرد قصة الشعوب من منطلق فقد واكتساب الأرض.

  لم يكن هناك أي تعليل لعدم وجود شعر على أجساد البشر أو لقدرتهم على السباحة، وذلك حتى أتى رجل إنجليزي يدعى أليستر هاردي بالفكرة الجديدة غير المألوفة، بأنه لم تكن هي غابات السافانا بل كان البحر هو الذي حقق التفرع بين القردة والبشر، لقد اقترح هاردي أنّ الخوض في المياه، ومن ثم السباحة، هما اللذان شجعا، ليس فقط الوضعية المستقيمة للبشر، ولكن كذلك غياب الشعر عن أجسادهم وقدرتهم على السباحة والغوص.

تعتبر الرحلة إلى الساحل ليست آخر وإنما أول ملاذ للبشرية فقد كان يعتقد ولمدة طويلة أن البشرية توقفت عن الصيد فقط عندما انقرضت هذه الحيوانات، الآن يمكننا أن نقول بثقة أنّ البشر استقروا على السواحل ليس بسبب نقص الأراضي الداخلية بل بسبب الغنى الذي قدمته السواحل البحرية، لقد حدث بريكلي كارل ساور في العام 1962 أن الساحل لم يكن آخر اختيارات البشرية ولكنه كان نقطة البداية لأفراد الإنسان العاقل الحديثة، كيف بدأت الرحلة خارج أفريقيا؟ فمن دون البحر ما كان ليمكن تصور التطور البشري، فلم يكن الساحليون يخرجون من أفريقيا، حتى ملأوا هذا الكوكب بسرعة لم يحققها أي جنس آخر، لم يكن المزارعون هم أسلافنا بل كانوا أبناء هؤلاء الذين وضعوا بصمتهم الخضراء على الساحل أو على طول المجاري المائية.

لقد سمحت السواحل للشعوب بأن تنمي وتطور علاقات اقتصادية واجتماعية أكثر تعقيداً، بما يشمل التجارة على امتداد السواحل وبالقرب منها، وكما رأينا مسبقاً، كان الساحل محفزا على التطور الثقافي الثمين، ومع مرور الوقت، ستتحصل السواحل كذلك على سلطة وغنى كبيرين، ما أدى إلى تكون ما يدعى THALASSOCRACIES، وهي الدولة المحكومة عبر البحر عوضاً عن الأرض، بسيطرة تمتد أكثر من أي إمبراطورية أرضية، فإنّ أعظم الإمبراطوريات مساحة في التاريخ الإنساني، الهولندية، والبريطانية، قد ولدت بحرية، اليوم آخر أعظم دولة المحكومة بحريًا THALASSOCRACI، الولايات المتحدة، لا تزال تستخدم قواعد جزرها ومقاطعاتها الساحلية لتأمين مصالحها الاقتصادية والسياسة حول العالم.

في العادة، نحن نربط هذه الحضارة بتطور الزراعة في الشرق الأوسط والهند منذ 10 آلاف سنة مضت، بيد أن الأبحاث الحديثة تشير إلى أنَّ شعوب العصر الحجري كانوا يزرعون المحاصيل ويزاوجون الحيوانات منذ وقت أقدم بكثير، وغالباً في أماكن حيث المزيج من اليابسة والماء يقدم أعظم إنتاج بأقل جهود، فالموطن الحقيقي للبشرية هو حيث تلتقي اليابسة والماء، موضوع ولادة الحضارة، كما بدأت الحياة نفسها في البحر، كذلك بدأ كل منِّا حياته المنفصلة في محيط مصغر داخل رحم أمه، وفي مراحل التطور الجنيني يكرر الخطوات التي تطور بها  جنسه، من مستوطنين لعالم مائي يتنافسون بزعانفهم وصولاً إلى مخلوقات تستطيع أن تحيا  على الأرض، إن قصة الطرد من جنة عدن والنفي المرتبط بالمجاعة، والمسرود روايته في العهد القديم، كانت مرتبطة بوضوح بالكوارث البيئية التي نعرف الآن أنها قطعت الطريق على التاريخ الزراعي في الشرق الأوسط القديم، فعلى عكس الصيادين الرُحل الذين خفضت حركتهم من نسبة مواليدهم نسبياً، كانت مجتمعات الإنتاج الزراعي المستقر تميل إلى الأسرة الكبيرة، والتي أدت إلى تزايد عدد البشر في المناطق القاحلة الضعيفة من الشرق الأوسط، لقد كان المزارعون، وليس الصيادون الرحل، هم من أجبروا على تبني إستراتيجيات التنقل والشتات من أجل البقاء.

أعطى التنقل لسكان البحر فوائد عدة مثل درجة أعلى من الصحة البدنية عن التي كانت للشعوب المستقرة، والذين كانوا غالباً ما يلوثون بيئاتهم، وبالمثل عندما يتعايش البشر مع الحيوانات عوضاً عن أن يصطادونها، فإنهم يجعلون أنفسهم عرضة للأوبئة، بعكس مجتمعات الصيادين الذين تكيفوا مع تنوع وموسمية البيئة الانتقالية حيث تلتقي اليابسة بالبحر، فإنّ هذه الشعوب الساحلية كانت أقل عرضة للمخاطر من هؤلاء الذين كانوا يعتمدون على مجال أضيق للموارد، فمن المقدر أن الصيادين الرُّحل البالغين قادرون على تأمين احتياجاتهم بجهد مبذول لمدة ما بين ست وسبع ساعات في اليوم، فيما احتاج المزارعون نحو تسع ساعات، في مجتمعات اليوم الصناعية، لا تزال ساعات العمل تدور في حدود ثماني ساعات، وهي ساعات أكثر إرهاقًا ورتابة بكل تأكيد.

بريكلي كارل ساور كان من أوائل من أوضحوا أنّ المزارعين صيادي السمك هم من قادوا الطريق إلى تطور البشرية، لقد كان بزوغ مُجتمع زراعي خالص معرضاً دورياً لأنواع مختلفة من الأوبئة والمجاعات، لربما هو، على الأقل من وجهة نظر بيئية، الأول بين العديد من الزلات التي ارتكبتها البشرية.

يُقدم كتاب الساحل البشري استعراضًا علميًا بيئياً لسواحل العالم وللتغيرات المهمة التي أصابت بعضها بشكل جلي، تغييرات في معظمها سلبية موعزة لتدخلات الإنسان الأنانية في النظام الذي للبيئات الانتقالية الحساسة بين الأرض والبحر، حيث يستعرض الكتاب علاقات الجذب والطرد بين الإنسان والسواحل والبيئات المائية، ففي كثير من الإثارة يستمر جون آر.غيليس في كتابه الساحل البشري  باستعراض تاريخ الساحل وكائناته، موضحاً كيف بدأ الإنسان القديم حياته قريباً من السواحل ليبتعد بعدها عنها متوغلاً في اليابسة ومكوناً علاقات سلبية شبه عدائية تجاه الساحل، ليعود مجدداً بحنين شديد إلى الساحل، عودة اقتصادية ترفيهية سياحية هذه المرة، عودة مدمرة للعيش ..على.. وليس ..مع.. الساحل.

 

 

 

                                                                 

 

 

فقط  عندما اجتمع عمل البستانة والزراعة مع الصيد تعلمت البشرية ان تتعايش مع الطبيعة طرق يمكن لها ان تدوم لفترات طويلة جدا.من هذا المنضور ،

كان يجب استكمال البروتين المتوافر من السمك والمحار بسعرات حرارية من لحوم الحيوانات والنباتات القابلة للأكل والتي كان من السهولة العثور عليها على الساحل كما في الداخل.