الحقانية المطلقة

 

د/عبد الله عبد الرزاق باحجاج

في دولة أو في إطار أمة، كأمتنا الإسلامية، تتعدد فيها المذاهب، وتتنوع فيها العرقيات والثقافات والجهويات الترابية بجماعاتها المحلية .. يكون الادعاء بالحقانية المطلقة عبثاً بالأمن والاستقرار، أو تشطيرا للأمة أم تعميقًا له أو مسعًا لقلب عاليها سافلها، بتعصب مذهبي أو عرقي .. أو يكون وراءها أيدٍ خارجية خبيثة – سياسة فرِّق تسد –، فالادعاء بالحقانية المُطلقة لمذهب أو عرق أو لتراب مثلاً معناه الاستفراد بالحق مطلقاً والعمل على إلغاء ما سواه من حقوق للآخرين، فاعتراف الدولة – بالمفهوم المُجرد- بهذا النوع من الحق يُلغي مفهوم المواطنة على مستوى الدولة، ويُدخلها في صراعات داخلية لا نهاية لها، وإذا لم يدخل البعض حتى الآن في هذه الصراعات، فهذه بؤرة قابلة للانفجار في أية لحظة.

وعلى مستوى الأمة، فقد بدأ صراع جديد حول الحقانية المُطلقة، يظهر وكأنّه سباق على من يفوز باللقب، ليس لقباً على بطولة رياضية، ولا لقب سياسي، ولا أية ألقاب أخرى مُعتادة، إنّه لقب،، أهل السُّنة والجماعة،، فمن سينجح في الفوز به؟ من المضحك المبكي في آن واحد، القول بأنّ اللاعبين الجُدد سينتزعون اللقب بعد مؤتمر الشيشان في أغسطس الماضي، ولا القول بأن اللاعبين القدامى سيتمكنون من الحفاظ على حصريتهم للقب، لا هؤلاء سينجحون، ولا الحصريون قد نجحوا، بل الخاسر الأكبر في الحالين الأمة الإسلامية التي تدخل مرحلة استضعاف جديدة بقيادة علمائها، مما أوصلونا إلى ضعف تراكمي بنيوي، سيفقد الجسد الإسلامي ما تبقى من مناعة بعد هذا السباق، فمع من نقف؟ لن نقف مع أي عالم إسلامي حتى لو التقينا مع فكره أو مذهبه، أو مع أي مسلم كذلك، يكرس تشطير الجسد الإسلامي على صعيد الأمة الإسلامية أو داخل البلد الواحد، مهما كانت الاختلافات المتغلغلة في بنيانه – الجسد- أو الخلافات العميقة المذهبية بين أطيافه- الجسد- لن نقف كذلك مع أي صاحب دعوة إحقاق الحق المذهبي المظلوم أو المضطهد داخل ترابه، إذا كان ذلك سيمس جوهر التَّعايش بين المُسلمين حتى لو لم يكن هذا التعايش متوازناً، أو لم تكن هناك نسبة وتناسب للتعايش، فتحقيق التوازن لن يكون عبر هدم واقع التَّعايش، وإنما بالحوار الهادئ حتى لو كان طويلاً، لعل وعسى أن يتفق الكل على ضرورة تغليب الحق المذهبي للفرد والجماعة.. دون إكراه أو استغلال للظروف المالية والاجتماعية، سنقف مع كل فكرٍ يوحد ولا يُفرق، ويُعزز التَّعايش لا يهدمه، والذات المُتحدثة هنا، المجتمع، وهو ليس محددًا بذاته دون غيره، وإنِّما لكل المُجتمعات العربية وبالذات الخليجية التي تنعم بتعايش مذهبي ولو في حدوده الدنيا ما دام ينتج لها الاستقرار والأمن، وقد تجلَّت في عيد الأضحى المبارك نعمة الأمن والاستقرار لهذا النوع من المجتمعات، فهناك مجتمعات عيَّدت على وقع إطلاق الرصاص والصواريخ جواً وبراً مع استمرار سقوط الضحايا، ومجتمعات أخرى، عاشت العيد وأفراحه على وقع تساقط الرذاذ وانتشار الضباب، مشهدان يهزان تأملاتنا المعاصرة، ويجعلاننا ننظر لمروجي استلاب الحق وانتزاعه، وكذلك استمرار أنصار الحق الحصري في إقصاءاتهم، بأنهم يغردون بعيداً عن مصلحة الأمة الإسلامية، وخارج الظرفية القاهرة التي تمر بها دولهم وشعوبهم، هل بوعي أم بلا وعي؟ وسواء كان الأول أو الثاني، أو كلاهما، هل وراءهما تعصب مذهبي أم بُعد سياسي أو كلاهما؟ على المستوى التاريخي، فقد ساهمت عوامل وأحداث كثيرة في بلورة مذاهب عقدية وفقهية وسياسة في عالمنا العربي، وخليجنا من بينها، وبالتالي لن نقصي البعد السياسي من أية تفاعلات مذهبية قديمة أو حديثة، من هنا يكون خطابنا في اتجاهين، سياسي، وديني، ومنه، نطرح التساؤل التالي، ما الذي يجب أن تفعله دولة (ما) تتوزع ديموغرافيتها على عدة مذهبيات؟ وإذا ما طرحنا هذا التساؤل على صعيد المنظومة الخليجية، كيف يتطلع القادة للوحدة أو الاتحاد دون حل مشكلة المذهبية الخليجية؟ يستمد طرح ثنائية التساؤل الآن من واقعيته الحقيقية التي نراها مجسدة في كل دولة من الدول الست، كما تحتمه الظرفية الراهنة التي تمر بها هذه الدول نفسها في إطار كونيتها الضاغطة والمستهدفة، ومستقبل صراع المذهبيات الذي يلوح في الأفق، فماذا ستكون إجابتنا على هذا التساؤل؟ سننقل الإجابة من أغلبية الواقع الخليجي المُعاش نفسه، فمنه لا تزال المذهبيات داخل كل دولة، وكذلك على مستوى الخليج، تعتقد أنها الأصح، وما عداها أصحاب بدع أو كفرة أو مشركين، أي ليس هناك مُسلمين خلص إلا اتباع مذهبها فقط، والأخطر في المرحلة الراهنة، استدعاء البعد المذهبي الإقليمي والدولي المشترك والمتقاطع مذهبياً وسياسياً في عداوة الآخر، كنموذج مؤتمر الشيشان مثلاً، فهذا المؤتمر قد أظهر عمق انقسام مشهدنا المذهبي إلى فسطاطين/ كل فسطاط يزعم لنفسه بحصرية اللقب /أهل السنة والجماعة/ ووراء كل فسطاط قوة بل قوى سياسية داعمة له، وهنا نجد الكل من علماء وسياسيين ومفكرين.. يساهمون الآن في حرب الاستضعاف، هل يعتقد كل فسطاط أنّه سينتصر؟ وعلى من؟ وما هو الثمن المدفوع؟ إنكم ياعلماؤنا الكرام تكرسون الخلاف القديم، وتستدعونه الآن بقوة في مرحلة تنهار فيها عواصم عربية كبرى على خلفية المذهبية، وأخرى تواجه المصير نفسه، لتحقيق حلم تفتيت الجسد الإسلامي، بدءًا بالأهم ثم المهم، هل تدركون ذلك؟ وهل تدركون أنكم تساهمون في تحقيق مثل هذه الأجندة؟ نتفق مع البعض على أنَّ اللقب قد سلب، وأنه مورس على الآخرين الإقصاء، لكن ما الحل؟ هل يكمن في اتباع نفس النهج؟ هناك فرصة مواتية الآن لتصحيح الخطأ، وينبغي أن يقود العلماء أنفسهم هذا التصحيح على قاعدة التنازل عن الحقانية المطلقة من قبل كل مذاهب وفرق القبلة الواحدة، والتوحيد الواحد، والنبي الواحد، والجلوس فوق طاولة واحدة للحوار المشترك الذي يجمع الكل دون استثناء للتوصل إلى قواسم مُشتركة للتعايش رغم الاختلافات المذهبية، وهذا يمثل أولى الأولويات للأمة الإسلامية، وهي مهمة ورثة الأنبياء بامتياز، وهم العلماء، وعلينا أن نحملهم إلى مستوى خطبة عرفات الأخيرة، فقد دعت إلى الحوار لمناقشة قضايا الأمة والتناصح بالخير، واعتبرته سبيلاً لتعزيز الأمة، وحذرتهم من الحزبيات والفرقة، ودعتهم إلى الاعتصام بحبل الله، خطبة تنطلق من أحد معاقل الحصرية المطلقة التي كان لها السبق في إدعاءات هذه الحقانية، الإقصائية، لذلك ينبغي أن تعني هذه الدعوة للآخرين تحولاً في النهج، وانفتاحاً على الآخر، وفي المُقابل ينبغي أن يستقبلها كل العلماء بالمُباركة، والتفاعل معها داخل حدودها أولاً وخارجها ثانياً أو بالتزامن، علينا التطلع منهم إلى هذه المبادرات عاجلاً، فالدسائس والمؤامرات الدولية بدأت تشتغل الآن من خلال البوابة المذهبية، مستغلين الحقانية المطلقة كسلاح ضد الآخر، ومن هو الآخر، هم مسلمون مثلهم، يجتمعون معاً على الثوابت الأساسية وتفرقهم تفاصيل بعضها صغيرة تمامًا، أحياناً نجدها في وضع الأيدي أو البسملة.

ياعلماؤنا المسلمون ماذا أنتم فاعلون بالأمة؟ إذا كانوا مجردين من التبعيات السياسية، فسوف يدفع بهم إيمانهم إلى قبول الحوار، بل سيقدم الفاعلين منهم إلى أخذ زمام المبادرة، أما إذا كانت التبعية السياسية قد رمتهم في مستنقعها، واستحكمت عليهم حلقاتها، فستدخل خطبة عرفات في التاريخ حتى لو كان وراءها إرادة سياسية داخلية، وحالة التشاؤم هى السائدة الآن، لأنّ علماؤنا للأسف ومن كلا الفسطاطين هم سبب في تفرقة الأمة، لأنهم اشتغلوا في السياسية، غرقوا فيها، وكانوا أداة أساسية لسياسة بلدانهم أو للسياسة الإقليمية قبل أن تتقاطع معهم الآن السياسية العالمية، كما دعت خطبة عرفات وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي إلى لم الشمل وتقديم الكلمة الحسنة بين الجميع، فهل وصلت رسالتها للكل، علينا جميعًا تحمل مسؤولية لم الشمل عبر التركيز على ما يجمع بين المسلمين والابتعاد عن كل ما يفرقهم، رحمة بالأمة واستشعارًا لعظمة المسؤولية والأمانة اللتين سوف نسأل عنهما.. وهناك تساؤلات ملحة تطرح على الوعي السياسي الخليجي، أبرزها، هل يمكن للادعاء بالحقانية المذهبية المطلقة أن يحقق الأمن والاستقرار للدول الخليجية الست؟ وهل يمكن لهذه الدول أن تنتقل إلى الوحدة أو الاتحاد بأي شكل من أشكاله المعروفة حتى لو استكملت مقومات الوحدة الاقتصادية والسياسية، وهناك مذهبية تكفر وتقصي المذهبيات الأخرى؟ وما الحل؟ هذا مقالنا المُقبل بمشيئة الله.