ثقافة المبادرة

 

 

حاتم الطائي

"لا يُعطي المجدُ ذاتَه إلا لِمَن يحلُم به".. كلماتٌ صاغ بها الجنرال الفرنسي شارل ديجول مُصطلحًا ينطوي على رُوح وثَّابة نحو البذل وتحمُّل الصِّعاب، مُتسلِّحة بالهِمَم العالية في رحلة بلوغ وتحقيق الأهداف. إنَّها "ثقافة المبادرة" بما تُمثله من إطار يحتكمُ إليه سُلوك الإنسان ونشاطاته المختلفة، ليلعب دوراً داعمًا في مُختلف المجالات الحياتية، ويُوجِد حلولاً مُستدامة تُسهم في صياغة مفاهيم ومُعطيات قد تختلف أو تتفق في جوانب منها مع ما هو سائد؛ فتتعزَّز بذلك روح المشاركة والمساهمة وتحفيز دورة العمل وفق آليات وأسس قد تُؤتِي أُكلها مع مرور الوقت، وتفتح المجال واسعًا أمام شبابنا؛ فتساعدهم على التحوُّل من خانة "الباحثين عن عمل"، إلى خانة "المبادرين" القادرين على خلق الفرص بما يُناسب مهاراتهم، ويُثري تجاربهم العملية، ويرتقي بالعمل الجماعي كمًّا ونوعًا وجودًة.

فما تُجسِّده "ثقافة المبادرة" يعكسُ بشكل كُليٍّ الأطرَ المرجعيَّة لثقافة العمل، ثقافة التمكين، ثقافة المشاركة؛ بما يُمكِّن الإنسان من مُباشرة دوره كشريك حقيقي في النشاط الاقتصادي، إذ كَمْ من مُبادرة فردية أصبحتْ مشروعًا تنمويًّا واعدًا أسهم في تنشيط حركة السوق، ورفد والارتقاء بمنظومة اقتصادنا الوطني؛ وهو ما يُمكِن التأسيس عليه للقول بأن ثقافة المبادرة تعدُّ ركيزةً من ركائز الاقتصاد المعاصر، وهي دُعامة لتمكين ورفع المقدرة التنافسية، فالتجارب أثبتت أن القوانين وحدها لا يُمكن أن تُشجِّع الأفراد على المبادرة بخلق فرص عمل، ما لم تكن هناك ثقافة داعمة للمبادرة، واعية لها، يتم تأسيسها في مكونات النظام التعليمي وأساليب التنشئة الاجتماعية ووسائل الإعلام وثقافة المجتمع أو الثقافة العامة، إضافة إلى خلق نماذج لمشاريع ابتكارية صغيرة ومتوسطة يتم احتضانها ورعايتها لتكون نماذج ناجحة يُقتدى بها؛ نظرًا لتأثير ثقافة المجتمع على مقدار روح المبادرة القائمة ضمنه؛ فالمجتمع عليه تشجيع روح المبادرة عن طريق الثقافة أو السياسة التي تمنح أعلى تقدير للفرد "العصامي" كتشجيع لروح المبادرة.

ويأتي طرحنا هذا وفق عدَّة موجِّهات تنضوي تحت مفهوم "ثقافة المبادرة"؛ حيث تُسهم تلك الرُّوح المبادِرَة في إلغاء كافة المظاهر السلبية التي تُعيق دور المواطن عن التوجه نحو فعاليات تأسيس المشروع؛ وبالتالي توسيع مجالات النشاط الاقتصادي وتنمية مهارات الأفراد ورفع مقدرتهم التنافسية؛ فتدفع نحو مستويات مُتقدِّمة وإيجابية للطموح وإدراك الذات، وتساعد على التصدِّي لمظاهر هدر الموارد البشرية والمادية للمجتمع، وتحفِّز الأفراد على العمل المنتِج والمجدي اقتصاديًّا، وتفتح المجال أمام المنافسة الداعمة لزيادة مستويات الجودة، وبالتالي دعم قدرة اقتصادنا الوطني على التعامل بكفاءة في الأسواق العالمية؛ بما يُعزِّز خُطانا نحو الاتجاه التطوري، إذ ليس المعني بالبحث هنا انتقال شكلي للمجتمع من مرحلة إلى أخرى؛ بل تطوير الذهنيات وآليات التفكير والتعاطي مع مُسلَّمات وأولويات ترسَّخت عبر قرون من خلال البحث عن مكامن الضعف والقوة، وكذلك صوابيتها من خطئها، وما يعنيه من تجاوز الإشكالية وسلبياتها على تطوير الذات والمجتمع.

الأمر الذي يفرضُ على شبابنا المبدع -في المقابل- أن يُدرك حجمَ تلك "القوة الدَّافعة" فى الانطلاق نحو تحقيق أهدافه؛ إذ بمجرد أن يبدأوا التحرك قُدمًا، ويخطون الخطوة الأولى، تصبح الأمور أكثر سهولة؛ حيث تُشعرهم روح المبادرة بالمسؤولية الذاتية والرغبة فى التغيير المستمر، وأنَّ بإمكانهم اختيار ردود أفعالهم، فيتجاهلوا الكثير من السلبيات التى تُعيق تفكيرهم تجاه أهدافهم المستقبلية، وتجعل رُوحهم المبادرة صفةً مُتأصلة تقودهم نحو تحقيق إنجازات تلو الأخرى بخطوات متتالية، وبيقين وإيمان ثابتين.

ولعلَّ الطرحَ يقتضي إشارة إلى ما شقَّت "الرُّؤية" طريقها إليه، كرؤية إعلامية جديدة تنتهج فكر "المبادرة"، لتوجِد رُؤى مُستقبلية تهدفُ لتسليط الضوء على إبداعات شبابنا في مُختلف المجالات، وتهيِّئ الأجواء الملائمة لهم للتحليق في آفاق أرحب بعالم التميُّز والابتكار، وتشجِّعهم على ارتياد المستقبل بثقة واقتدار؛ خدمةً ونهضةً لهذا الوطن بأفكارهم الإبداعية، عبر العديد من الفعاليات، والتي تطل "جائزة الرُّؤية لمبادرات الشباب" عبرها حاجزة لنفسها مكانَ الصدارة بعد أن قطعتْ شوطا كبيرا على صعيد الانتشار خلال السنوات الأربعة الماضية، لخلق بيئة محفِّزة على المبادرة والإبداع؛ تتسق والرؤى السامية لمولانا حضرة صاحب الجلالة -حفظه الله ورعاه- التي تُولي شبابنا اهتمامًا بالغا، في إطار رعاية أشمل لأبناء الوطن؛ وبمفهوم واع وفكر ثاقب يضعَ الإنسان العُماني حجز الزاوية في خطط التنمية.

... إنَّ الدعوة إلى تعزيز روح المبادرة لدى شبابنا لا تعني طرق المستحيل، وإنما تستهدفُ تفعيل الطاقات الكامنة لصالح المجتمع فكراً وقولاً وعملاً، وهو طرح مُوجَّه إلى كل فرد حسب إمكاناته؛ وعلى مُؤسَّسات المجتمع تهيئة الفرصة للمبادرات الشبابية والفردية، ودعمها وتشجيع أصحابها، حتى نضمن ارتقاءً حقيقيًّا لاقتصادنا الوطني، ونصل بمبادراتنا إلى ما وصله غيرنا من تطوُّر ونماء؛ وفق خطط وبرامج تضمن الوصول إلى محطات أكثر تفاعلية مع العالم وتجاوز مرحلة التلقِّي.. فكما قيل: "بادر الفرصة واحذر فوتها، فبلوغ العز في نيل الفرص.. وابتدر مسعاك واعلم أنَّ من بادر الصيد مع الفجر قنص".