حمود بن علي الطوقي
نحن في السلطنة نتَّخذ من العبارات المضيئة للمقام السامي لحضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم- حفظه الله ورعاه- مناراً وبوصلة نستهدي بها في سبيل تحقيق الغايات العظمى، فقد قال جلالته- حفظه الله- في أحد خطاباته: "إنّ جميع المسؤولين في الحكومة خدم للشعب، وإن الوظيفة هي تكليف ومسؤولية قبل أن تكون نفوذاً وسلطة، وإن العدل هو أبو الوظيفة وحارسها"، فهذه العبارات نبراس مهم للعبور نحو ضفة الاختلاف، خاصة في ظل المرحلة الحالية، بما فيها من مستجدات، وبما تعنيه الشراكة بين ذوي الخبرة في المجالين الحكومي والخاص لتأسيس مرحلة جديدة من التحول الفعلي نحو التنويع الاقتصادي عبر جلسة العصف الذهني الاستثنائية (تنفيذ).
تجربة (بماندو) الماليزية يبدو أنّها تطل بخلاصاتها هُنا في السلطنة، من خلال جلسة العصف الذهني المرتبطة بالتنويع الاقتصادي، الذي يبدو من عنوانه أنّه يُعيد التفكير في أحادية المصدر الاقتصادي (النفط)، وهي فكرة قديمة، وتمّ طرحها على المستوى النظري سابقاً بأشكال مختلفة، ولكنها لم تدفع بـ (التنويع الاقتصادي) نحو ما هو أفضل، بل ظلت العبارات الإنشائية تجوب وسائل الإعلام وتصريحات المسؤولين والعديد من الفعاليات من دون حقيقة تغييرية مُتجسدة على أرض الواقع.
الآن يأتي هذا الحوار البناء ليستعيد التجربة الماليزية، التي تتخذ من القطاع الخاص نقطة ارتكاز للتحول نحو هذا التنويع، نحو ما تمت تسميته (تنفيذ)، ولعل إطلاق المُسمى بـ"تنفيذ" له دلالة عميقة بغية المضي قدمًا في تحقيق القرارات المعطلة فالعديد من القرارات لم تعرف حقيقة الـ"تنفيذ"، كما نفهمه نحن العمانيين، ولكنه ظل مصطلحاً إعلامياً بحتاً، غير أن المطروح الآن هو تجسيد الخطة الخمسية التاسعة بهذا المفهوم، بكونها نهاية عِقد (2020)، تمهيدًا لمرحلة (2040)، باستجلاب النموذج الماليزي..
نحن مع فكرة (تنفيذ)، لأنّها تُعنى العمل، والعمل وحده، وهي خاصيّة مقرونة بجدول زمني، وظروف محددة، ونتائج مدروسة، وحصاد وطني تراكمي ضخم التأثير، وانتشاء اقتصادي عظيم؛ ولذلك نعتقد جزماً بأنّ هذا الـ (تنفيذ) يحتاج في المقام الأول إلى ما يُمكن أن نسميه (ثقافة الحافز)، وهي فلسفة سهلة وبسيطة وميسرة، مبنية على عنصر المكافأة والدفع نحو عمق السوق المحلية، وبعدها التوسع نحو الخارج، والاتكاء على المؤسسات الصغيرة والمتوسطة، فهي مفتاح كسر قيود الأحادية والانطلاق نحو التنويع؛ ولكي يكون ذلك حقيقيًا وفاعلاً، لا بد من النظر إلى الإنسان العماني الفرد، من حيث البناء الصحيح والمكين والتفاعلي، فقد مرّ ما يزيد على أربعة عقود ونصف والحكومة تبني التنمية التأسيسية في المكان والإنسان، تلك مرحلة مهمة، ولكننا الآن في مرحلة أهمّ، وهي الحاضر المُتقلب، والمستقبل الذي لا ينبغي أن يغمض عينيه ويسير على هُدى النفط، الذي لم يراكم تجربة اقتصادية تنويعية ذات تأثير يذكر.
بناء الإنسان العماني يأتي من خلال فلسفة (الحافز)، فهو مهزوم بالمنافسة من الغير، ومهزوم بالقوانين، ومهزوم بتعطيل بعض الإمكانات، ومهزوم بالتعقيد في الإجراءات، ومهزوم بالتناقض بين دفعه إلى المجازفة ثم تركه في قارعة الطريق بسبب قِصٓر عُمر تجربته الاستثمارية المعاصرة، وهذا ليس حافزًا بالمعنى التنافسي، لذلك ينبغي على (تنفيذ) أن يأخذ ذلك في عين الاعتبار..
ثم إنّ قيام بعض النشاطات التي تُعزز من بناء الثقة التنافسية عبر المغامرة والمجازفة بالتراجع في مقابل ما صرنا نعرفه بـ"الهاجس الأمني"، سيجعل من الرغبة في صنع الجديد ومنافسة الأقران واقعاً تحت تأثير هذا البند، وهذا ينطبق على بعض الابتكارات والحلول الاستثمارية لدى الشركات الأجنبية المستثمرة في السلطنة، لكونها تصطدم بهذا السياج الفولاذي "أسباب أمنية"، في حين أنّ تنفيذها لن يجعلنا في معزل عن المُشابهة التنافسية في المشاريع مع دول أخرى، فالأحرى بـ"تنفيذ" أن يفتح هذا الملف من جديد ليدعم القطاع الخاص ممثلاً في كافة المؤسسات الكبيرة الحجم وحتى تلك الصغيرة والمتوسطة، خاصة على مستوى تبسيط الإجراءات البسيطة أصلاً، وجعلها مفتاحاً للولوج نحو أشكال استثمارية عمانية تنافسية الطابع.
ولكي يكون لـ"تنفيذ" دور محوري فاعل، على الأقل في الإطار الإستراتيجي ، لا بد من تكريس العزل الذهني الذي يعتبر النفط أحد مصادر النفط الرئيسية، بل الأوحد، من خلال تحويله إلى عنصر موجّه للإفادة من نشاطات هذا القطاع، وتكريسه لتفعيل التنافسية، وإعادة صياغة القوانين بما يتسق مع حاجة الحكومة إلى وضع إطار زمني لتكون مناسيب المداخيل المالية من هذا القطاع عبر تدوير الحركة المالية والشرائية ذات نسقٍ تصاعدي، وهنا نستعيد فكرة ضرورة تكريس بناء تجربة الإنسان العماني، وتأهيله بحسب المرحلة الحالية والتي تليها، لتتناسب النتائج مع المعطيات، ليكون الـ"تنفيذ" محل "تنفيذ"، وليس محض تجربة مُستعارة.
وهنا لا بد أن نرفض مبدأ التعطيل الذي هو ضد التنفيذ.
إنّ هذا التوجه نحو بناء الإنسان العماني، والاستراتيجية الاقتصادية الأكبر، من شأنه أن يقود إلى ضرورة تكريس المحافظات لتعمل وفق هندسة تأصيلية للمناشط المختلفة، بأن تتحوّل إلى بؤرة مركزية للتخطيط والتنفيذ والمتابعة، لإنماء البيئات وتكريسها لأهداف واضحة في الزراعة والصناعة واللوجستيات وصناعة الموارد البشرية والثقافة وإعلاء شأن بناء القيادات والكوادر، وغيرها من التوجهات التي تجعل من قطاع المؤسسات الصغيرة والمتوسطة رائدًا ومقدّما في قيادة التنويع الاقتصادي، تماماً كما هو حاصل في دول العالم ذات الاقتصادات الضخمة والكيانات العابرة للقارات..
أختم مقالي بالدعوة الصادقة لكافة المعنيين ببرنامج "تنفيذ" لوضع مصلحة عُمان فوق كل الاعتبارات وأن نرى العمل الجماعي المؤسسي نبراساً نحو تحقيق الشراكة بين القطاع العام والخاص.