من وحي الذاكرة (6)

علي بن كفيتان بيت سعيد

لم أكن أعلم من هم أطراف الصراع في هذه المواجهة، وذلك لحداثة سنّي وقلّة إدراكي بما يدور حولي، فهناك يد ممدودة للخير والصلاح، وتغيرات كبيرة تحدث على أرض الواقع، وهناك طرف آخر لا أعلم من هو ولا لماذا يقاوم، هذه هي المعادلة التي كانت تدور في ذهني في تلك الأيام ولم أجد لها حلا، مرّت الأيام وقضيت قرابة الشهرين في معسكر الفرقة وكنف خيمة المدرسة، إلا في الأوقات العصيبة التي تواجه فيها الفرقة تهديدًا مباشرًا من الثوار كنت أذهب مع زميلي عطيرون إلى بيت كريم وأسرة طيبة هم (بيت محاد عفر) رحم الله عمي محاد؛ كم كان لطيفاً معي، ويعرض عليّ دائمًا أن أظل معهم باستمرار لكن العيش مع الرجال كان بالنسبة لي فرصة لا تفوت وتشويقا لا ينتهي، وبطبيعتي كطفل فإنني مللت من نمط الحياة التقليدي ولذلك كنت أرفض مثل هذا الطلب.      

في هذه الأثناء جاءت إجازة العيد الوطني التي تصادف الثامن عشر من نوفمبر فمنحنا إجازة لمدة عشرة أيام، عندما أخبرنا الأستاذ أحمد عن الإجازة فرح الجميع بينما أنا لازمت الصمت خرج الطلبة من الخيمة وبقيت على تختي الخشبي تصارعني مشاعر الفرح والحزن معا، فسألني الأستاذ عن سر ذلك فقلت له لقد أغضبت أمي وجدتي بقرار ذهابي للمدرسة ولم أرهما منذ شهرين كيف أعود لهما الآن، لا بد أنني سألقي عتابا شديدا، وربما لن أستطيع العودة للمدرسة التي أحببتها معك أستاذي وللمحاربين الذين ألفتهم، قال لي الأستاذ لا عليك هم سيفرحون بعودتك، وسوف ينسون ما جرى في الماضي فالأم هي دار الصفح دائماً هنا وصل خالي - رحمه الله -  وقال لي هيّا سأصحبك للدار، فأبي كان في تلك الفترة في إجازة المناوبة عند الأهل، طلبت منه أن يمهلني لحظات فذهبت مسرعًا إلى الطباخ الباكستاني (محمد يشاع) الذي كنت أضع عنده ثلاث هدايا رمزيّة لأمي وجدتي وأخي الصغير عبارة أكياس من حلوى الشوكليت، وبعض علب البسكوت المملح، وبطانية حمراء جديدة كانت هديتي من القائد حسن رحمه الله.  

أخذ خالي الأغراض بينما أنا أسير معه بصمت وبندقيته على كتفه رجل قوي البنية مقل الكلام تنم تعابير وجهه عن جدية دائمة في التعامل مع الأمور، لا يحبذ المزاح، صادق مع نفسه ومع الآخرين أبو علي. وفي طريقنا وعلى مكان غير بعيد من المعسكر وجدنا رجلا يلبس أزارا وقميصا، ويحمل بندقية تقليدية (بارشوت) ومردفا خاصرته بمحزم رصاص وخنجر على هيئة شبرية أو كما يسمونه في ظفار (سدحات). رحّب بنا الرجل وسلّم عليّ وداعبني بكلمات طيّبة، الظاهر أنّ وجهته كانت إلى معسكر الفرقة، سأل خالي عن الأحوال والأخبار وهما واقفان، ثمّ سار كل منّا في طريقه سألت خالي عن الرجل فقال إنّه الشيخ (محاد بن دبلان) وحسب ما فهمت أنّ هناك لقاءً في الفرقة سيتم في إطار الاحتفال بالعيد الوطني، وربما الشيخ محاد هو أحد المدعوين، وعلمت كذلك من خالي أنّ الرجل هو شاعر القبيلة، كم أعجبني لبسه الأنيق وثقته بنفسه وعطفه الحاني رحمه الله.

وقبل وصولنا للدار وجدت أختي الكبرى مع العجول في المرعى، ذهبت لها مسرعًا بينما خالي أكمل طريقه للدار، أخذت معي بعض الحلوى لها وعندما وصلتها حضنتني ودخلت في نوبة بكاء عميقة وهي تمسح على رأسي بلطف، وتقول أين ذهبت وتركتني لقد فعلتها وأنت صغير والآن وانت بهذه السن، لقد افتقدتك في كل شيء، وأتذكرك دائمًا وأخاف عليك من القتل.. في هذه اللحظات نظرت إليها ومسحت دموعها وقلت لها لقد أحضرت لك هدية، وأعطيتها بعض قطع الحلوى التي أحضرتها فأخذتها، ووضعتها على رأسها تعبيرًا عن الاعتزاز بقبول هديتي، وبعدها سألتني عن كل شيء وعن الفرقة والمعسكر والناس وكيف نأكل وكيف ننام فأخبرتها، ولكن مع بعض التحفّظ، فالرجال في الفرقة قد نبهوني لعدم ذكر التفاصيل فأيّ معلومة ربما تكون مؤثرة في وقت الحرب.

أتت اللحظة الحاسمة التي سأواجه فيها أمي وجدتي ونحن راجعون، كنت أجر رجلي خوفًا من عتابهما لذهابي للمدرسة دون رضاهما ولكن عندما رأتني أمي ركضت مسرعة وأخذتني في حضنها وأرخت دموعها وهي تقبلني كما فعلت جدتي وحضرت الكثير من النساء في الدار وحتى الأطفال لقد كنت أبدو في وضع أفضل من الوضع الذي كنت عليه قبل الذهاب للمدرسة، لقد اكتسى جسمي ببعض اللحم الإضافي واختفت الجروح التي في رجلي كما كنت أبدو أنيقا في الملابس الجديدة التي أرتديها.. تفحصت أمي كامل جسدي ومرت بيدها على رأسي وظهري وهي تحمد الله على عودتي، أهديت البطانية الحمراء المميزة لجدتي، بينما وزعت الحلوى والبسكويت على أمي وأخي الصغير (أحمد) وبعض الأطفال الحاضرين، لقد أشعرني الجميع بأنّي بطل، وخاصة جدي علي، والعم سعيد زيدي، والعم محيسن - رحمهم الله – فهذه المغامرة التي دفعني إليها أبي كانت حافزًا كبيرًا لبقيّة الأسر المُتحفظة لإرسال أبنائهم للمدرسة، وهذا ما حصل بالفعل بعد انقضاء إجازة العيد الوطني؛ حيث انضم للمدرسة حوالي سبعة طلاب من القرى المجاورة لنا وجميعهم يكبرونني سناً.   

حفظ الله عمان وأدام على جلالة السلطان نعمة الصحة والعافية،،

 

[email protected]

 

 

 

الأكثر قراءة