د. عبدالله باحجاج
في الوقت الذي تغرق فيه جهود الحكومة في البيروقراطية وفي الآجال الزمنية الطويلة، مثالنا هنا، تخصيص الحكومة 10 سنوات لتعمين المناصب القيادية وزيادة نسب التعمين في الشركات الحكومية التي عددها 60 شركة، والعشر سنوات لا تعكس هنا الجدية، وإنما التمطيط المحقن بإبر التخدير، وهذه الإبر لم تعد مفيدة للمرحلة الوطنية الراهنة بعد انكشافات سياسة تنويع مصادر الدخل، والتراكم السنوي لأعداد الباحثين عن عمل؛ فالعشر سنوات كثيرة وكبيرة، وفيها تبطين بالتسويف لغاية في نفس يعقوب، لربما تتحسن أسعار النفط، وتعود سعادة لعادتها القديمة؛ وبالتالي فهى لا تعكس الإرادة السياسية الدافعة الى زيادة التعمين والإحلال في الشركات الحكومية.
وفي الوقت الذي ترسخت فيه القناعات الحكومية باستحالة توفير فرص عمل جديدة للشباب، وباستحالة تحسين رواتب الموظفين بعد وقف ترقياتهم بسبب الأزمة النفطية، وتأثير كل ذلك سلبا على الأوضاع والنفسيات الاجتماعية؛ مما ولَّد لدينا حالتي إحباط ويأس مُتصاعدتين ستتوقفان حسب التطورات الديناميكية المقبلة لسوق النفط العالمية، وبالذات اجتماع الجزائر المقبل بين دول من داخل وخارج منظمة "أوبك"، ومن هاتين الصورتين: كيف يبدو مستقبل قضية الباحثين عن عمل خلال السنوات الخمس المقبلة؟
في هذه الظرفية الزمنية المفتوحة لكل الاحتمالات جدًّا، وبمعطياتها السلبية سالفة الذكر، يخرج نور ساطع من هذا النفق المظلم، ينسف فكر الاستحالات في ظل الازمات، ويبدِّد منهج الآجال الزمنية الطويلة لمواجهة التداعيات، ويعزز الإيمان بقوة الفرد في صناعة التطور أو التحول حتى لو كنا في عنق الزجاجة، فهل ننفتح عليه لكي يعم نوره ظلمات اليأس والاحباط ؟ نؤمن دائما بقدرة الفرد على صناعة النجاح، ونؤمن غاية الإيمان بوجود كفاءات وقدرات عمانية مؤهلة لقيادة النجاح، ونؤمن كذلك بوجود كل مقومات النجاح في كل قطاع من قطاعات الدولة المختلفة، لكن الإشكالية هنا تكمن في كيفية اختيار القدرات والكفاءات؟ ومن أية أرحام ومصانع تنتج؟ ومن، وكيف نضعها في مكانها الصحيح والمناسب؟ وكيف نزيل عن بعضها الإقصاء والتهميش وألوان التصنيف؟ وفي إطار هذا الإيمان، تولدت لدينا قناعة بإمكانية بلادنا مواجهة تداعيات الازمة النفطية، حتى لو وضعتنا أي هذه الازمة في عنق الزجاجة، فبإمكاننا من خلالها أن نتنفس الأكسجين كما أشرنا إلى ذلك في مقال سابق -وهذا لن يتأتى لنا إلا بالرهان على قدرات وكفاءات أبناء الوطن الخالصين والمخلصين فقط، وهم كثر، واكتشافهم ليس صعبا؛ فبالإمكان تميزهم منذ الوهلة الأولى كما نميز بين الذهب والفضة، وقد آن الأوان للرهان عليهم الآن، والثقة في قدراتهم الآن، والدفع بهم إلى مُختلف المستويات الوظيفية، بدليل: نماذج كثيرة تقود بصمت نجاحات وطنية كبيرة رغم الظرفية المالية التي تمر بها البلاد، نجاحات تخترق بها ذهنيات بيئتها الجامدة، تحييدها أو تضعها في زاوية ضيقة، دون المساس بمكتسباتها، وهذا وعي رفيع وأصيل يجنِّب البلاد والعباد الصراعات والإشكاليات، وتنطلق بالنجاح بذهنيات حية، صحيح أنها غيبت عن المسئولية، وارتمت في مستنقع البيروقراطية، لكنها لما أعيد الاعتبار لها، حققت بها الإعجاز رغم أن الموظفين هم أنفسهم، والبيئة هى نفسها، الجديد هنا، اختيار قيادة إدارية جديدة فعالة وفاعلة تمتلك الفكر والرؤية وقوة الإرادة على تحطيم الصعاب مهما كانت التحديات، وما يحدث في المديرية العامة للقوى العاملة في محافظة ظفار من تحولات وتطورات على صعيد الارتقاء بخدماتها وكسب الرضا الاجتماعي وتحسين أوضاع العاملين العمانيين في الشركات، من بين أفضل النماذج التي تستوقفنا كثيرا، وتثير اهتمامات الراصد لشأننا المحلي، فوراؤها قصة نجاح قائد إداري شاب مبدع، وهو خالد بن حمد الرواحي، لم يرمِ نفسه في مُستنقعات اليأس والاحباط، ولا في ثقافة المسئولين المحولين من محافظات أخرى، حرَّر نفسه منها، وأطلق فكره، وقاد موظفيه لخدمة مجتمعهم المحلي، على عكس فلسفة القيادة الإدارية المحولة، وقد تحدثنا في مقال سابق بعنوان "سياسة الأبواب الزجاجية المفتوحة" عن قيادة الرواحي مع فريقه الإداري للمديرية العامة للقوى العاملة، وقلنا فيه إنه وخلال سنتين فقط من تسلمه المنصب، حطم النظام البيروقراطي الذي كان أقرب التعذيب منه الى التنظيم، وقلنا فيه كذلك أنه كسر الابواب الخشبية، وحولها إلى أبواب زجاجية مفتوحة دائما بعد أن ألغى نظام المنسقين، وفي مقال آخر أشرنا إليه فقط من منظور قدرات القائد الإداري الناجح في تطوير بيئة العمل لتحقيق النجاح رغم وجود السلبية في الفكر والبشر والاعتقاد الحكومي بالاستحالة، وهذا الاعتقاد الأخير، قد عرَّته نجاحات الرواحي وفريقه الإداري؛ بحيث يظهر لنا أنه لم يكن سوى وهم وليس حكما، وقد تم الإغراق في الوهم كثيرا قد تكوَّنت على أساسه أحكام خاطئة، عطلت التطورات لسنوات كثيرة، بينما تمكَّن الرواحي مع فريقه الإداري في سنتين فقط من صناعة تحولات في مجال تقديم الخدمات للمواطنين -يراجع المقال سالف الذكر- ولم يكتفوا بذلك، بل انتقلوا بسرعة زمنية فائقة إلى تحطيم النجاح بامتياز في تحسين أوضاع العمانيين في الشركات الخاصة، وهذا المثير الجديد الذي يعطي للرواحي وفريقه الإداري الحق في مقال ثانٍ، وإن لم نفعل ذلك لصنفنا أنفسنا في فئة الظالمين -لا قدر الله- والنتائج المتحققة في هذا المجال ستكون صادمة للكل؛ فمن خلال اتباعه سياسة الحوار مع الشركات داخل محافظة ظفار لرفع الحد الأدنى لأجور العاملين العمانيين المحدد قانونا الآن 350 ريالا، تمكن من إقناع 33 منشاة برفع هذا الحد إلى ما بين 400 و450 و525 ريالا، وقد حملها إلى توقيع اتفاقيات مكتوبة لدواعي الالتزام، أتدرون كم مواطن استفاد من تحسين أوضاعه المالية من جراء ذلك؟ أكثر من 1100، وهناك موافقة 3 شركات وهى قيد الإجراء لتوقيع اتفاقيات مماثلة لرفع الحد الادنى للأجور، ونذكر على سبيل المثال لا الحصر، شركة ميناء صلالة فقد تم رفع الحد الأدنى للأجور لـ983 عمانيا إلى 500 ريال في اتفاقية وقعت 30/4/2016، وكذلك شركة أعلاف ظفار حيث تم رفع الحد الأدنى 224 عمانيا إلى 400 ريال بتاريخ 19/5/2016، وشركة ميناء بتروليم فقد رفع الحد الأدنى إلى 525 ريالا لنحو 24 عمانيا بتاريخ 21/3/2016، والحد الأدنى الجديد سيسري كذلك حتى لمن يتوظف مستقبلا.
تلكم مجرد نماذج مختارة لهذا النجاح الباهر مع 33 منشاة اقتصادية، بل إنَّنا نعتبره تحطيم النجاح بامتياز إذا ما أخذنا بعين الاعتبار المعطيات التي تناولناها في مقدمة المقال والتي تؤلد اليأس والاحباط في النفسيات، وكم اغتالت إرادات التطوير التي كانت تنقصها مفاعيل القوة الداخلية للتطوير، والإيمان بقدراتها الذاتية على التغيير، فعطلت إدارة البلاد لمواجهة التداعيات، لكن هذه النجاحات تعيد الأمل والتفاؤل في الذات وقدرتها على المواجهة مهما كانت التحديات والإكراهات؛ فتصوروا لو معنا أكثر من الرواحي وفريقه الإدراي وفي كل القطاعات؟ علينا هنا أن نتوجَّه بالشكر لمعالي وزير القوى العاملة لاختياره الشخص المناسب في المكان المناسب وفي التوقيت المناسب، والشكر له كذلك على دعم هذا الشاب في كل نجاحاته؟ فهل معاليه يعمم نموذج الرواحي؟ كما نطالب الحكومة بالتغيير والإصلاح في النخب الحكومية لكي يكونوا في مستوى المرحلة الراهنة؛ لأنَّ النموذج المقدم هنا، هو حالة استثنائية في مديرية عامة داخل محافظة، أي أنَّه صوت مؤثر، لكنه يغرد إيجابا خارج سربه الخاص والعام.