د. سيف بن ناصر المعمري
يبدأ هذا الأسبوع عام دراسي جديد في كثيرٍ من البلدان العربية، ومع بداية كل صباح سيتَّجه مئات الآلاف من الطلبة إلى المدارس والجامعات التي لا شيء جديد لديها لهم إلا ما قدَّمته في الأعوام الماضية، فالتعليم يمر بمرحلة ركود كبير في التطوير، ولا يُمكن للأرقام التي تُعبر عن التوسع الكمي في أعداد الطلاب والمؤسسات التعليمية أن تُغطي على هذا الركود، الذي يبدو أنّه يقضي على أية بارقة أمل في بناء أنظمة تعليمية قادرة على قيادة المجتمع إلى الثبات واليقين في ظل انهيار أسعار النَّفط التي تقود إلى ركود اقتصادي بالذات في توليد فرص العمل، وفي ظل تصارع التيارات الآيديولوجية في المنطقة والتي تعول على سحق الإرادة والأمل داخل الإنسان تجاه مجتمعه ووطنه ومؤسساته، وبالتالي تُعد ليكون إنساناً مختلاً كارهًا وناقمًا على كل شيء، فكيف نجازف هذه المجازفة الكبرى في ظل هذه الأوضاع ونترك التعليم يعيش ركوده الكبير في ظل هذه التحولات الكبرى التي تقود إلى تغييرات جذرية في كل شيء إلا في مؤسسات التعليم التي لا يعني تمسكها بواقعها أنّها في مركز قوة بقدر ما يؤكد ضعفها وخوفها من أية محاولات تطويرية.
لقد حفلت السنوات الماضية بصراع كبير بين خطابين في النظرة إلى واقع التعليم بمختلف مستوياته المدرسية والجامعية: الخطاب الأول خطاب تمجيدي ماضوي يتكلم عن التعليم بلغة الأرقام لا بلغة الكيف، ويحتفل بالأحداث الصغرى احتفالات كبيرة رغم أنّها لا تُعطي أي مؤشر على تحقيق الجودة. والدليل على ذلك الفشل السنوي لخريجي الدبلوم العام في الاستغناء عن البرنامج التأسيسي الذي يُكلف ملايين الريالات التي لم تكن جزءًا أساسيًا من الإنفاق التعليمي لكنها نتيجة لركود التطوير أصبحت بنداً لا يُمكن الاستغناء عنه وإلا لن يتمكن الطلبة من الالتحاق بدراستهم الجامعية، أما الدليل الآخر فهو أيضًا فشل كثير من خريجي مؤسسات التعليم العالي في اجتياز اختبارات التوظيف في مؤسسات هي عضو في مجالس هذه المؤسسات، وحين يفشل هؤلاء وهؤلاء من حقنا أن نتساءل إلى أين يقودنا هذا الخطاب؟ وهل سنكتفي بالرقم الذي لا يفصح دائمًا عن الحقيقة، فواحد زائد واحد ليس بالضرورة أن يساوي اثنين دائمًا كما يرى جورج أورويل في روايته (١984)، إذن الأمر يتوقف على الذي يقوم بالجمع والنتيجة التي يجد أنّها ستكون مُرضية له.
أما الخطاب الثاني فكان خطاباً نقدياً لواقع مؤسسات التعليم، سياساتها وخططها وهيكلياتها وتشريعاتها وإدارتها ومناهجها ولقد استخدم هذا الخطاب لغة تحليلية ارتكزت على الجودة التي تقود إلى بناء مُخرجات وطنية قادرة على مواجهة التحديات المختلفة التي تواجهها البلد، لأننا إذا سألنا أنفسنا لماذا نعلم هذه الآلاف من الطلبة؟ الإجابة بسيطة وهي تلك التي وضعها صاحب الجلالة السُلطان المُعظم في السبعينيات وهي تمثل الغاية الكبرى من التعليم وتتمثل في مساعدة العمانيين على إدارة البلد، والإدارة هنا تعني المشاركة في النهوض بالقطاعات المختلفة، لكن هذه الغاية تمر بمنعطف كبير فالبلد حين توسعت في كل القطاعات بما فيها قطاع التعليم العالي استعانت بالآخرين في مُختلف المستويات الإدارية والأكاديمية والفنية، وكذلك في قطاع الصحة، والنفط والغاز، والمناطق الاقتصادية الكبرى؛ وأحد المبررات التي طرحت لتفسير ذلك كان ضعف المخرجات، قالها جميع أصحاب المؤسسات الاقتصادية حتى أولئك الذين يملكون كليات وجامعات ويقومون بتعليم هؤلاء الخريجين، وبالتالي فإنَّ وجود هذا الخطاب كان مهمًا وإن كان تأثيره محدودًا في الخروج بالتعليم من حالة الركود إلى التطوير، ولقد صور بعض أنصار هذا التيار بأنّهم يعيقون مسيرة التعليم بالأفكار التي يبثونها، وأنهم فئة باغية تكتب بغير هدى، وتدعي ما لا يوجد في الواقع، ولكن هذا لم يكن خطاباً لفئة من التربويين والكتاب إنما كان إدراكاً من القيادة السياسية وأكد عليه قائد البلاد في خطاب له في افتتاح دور الانعقاد السنوي لمجلس عُمان في عام2011، وطالبت به المجالس البرلمانية وكبار المسؤولين في البلد وكذلك رجال الأعمال الذين يستثمرون في التعليم، الذين انتقدوا دور التعليم في تعزيز الهوية والمواطنة والانتماء وهي قضايا جوهرية، وانتقدوا ضعف المواءمة بين مخرجات التعليم وفرص سوق العمل، وانتقدوا ضعف البنى التشريعية للتعليم سواء تمثلت في قانون التعليم المدرسي أو قانون التعليم العالي، وبالتالي نطرح السؤال المُلح ألا نعيش كسادا في الإصلاح التربوي؟ رغم تعدد الأفكار والتجارب العالمية الناجحة التي يُمكن أن نقتبس منها بحكمة، ونستلهم منها بذكاء ما يُمكن أن ينهض بالتعليم.
إنّ خارطة ركود التطوير التعليمي يُمكن تتبعها بوضوح لا يمكن أن تخطئه العين المبصرة، ومثال بسيط لذلك هو تزايد عدد ما اسميه بـ "فلل التعليم" تمييزا لها عن المدارس التي لها مواصفات مختلفة من مبنى ومرافق ومساحات للتفاعل والحياة، والتي بلغ عددها في الشارع الذي أقيم فيه والذي لا يتعدى طوله كليومترين خمس "فلل تعليمية"، إنّه التعليم يتحول إلى سلعة بدلاً من أن يكون هدفاً تنموياً إستراتيجيا، وتزايد انتشار فلل الدروس الخصوصية والتي اسميها "المدارس الموازية" في قلب المدن الرئيسية ، بل إنَّ الدروس الخصوصية تمددت لتشمل طلبة الكليات والجامعات، وغدت المدارس والكليات الخاصة ليست خياراً أفضل إنّما بديل لا مفر منه، ومن اختار التوجه إليها عليه تحمل تسلطها في تحديد الرسوم والمتطلبات التي تشهد زيادة في الرسوم وتراجعاً في الجودة، وعلاوة على كذاك قاد هذا التنامي في أعداد المؤسسات إلى زيادة الطلب على الكوادر من الخارج وفق معيار توفير العدد مقدمًا على التدقيق في النوعية سيما في ظل إسناد هذه المهمة لشركات بدلاً من تقوم بها المؤسسات بنفسها، ويترافق كل ذلك مع ضعف المواءمة بين التخصصات والاحتياجات، ومع ضعف ارتباط المناهج بالواقع وتركيزها على التلقين في التدريس وعلى استهلاك المعرفة بدلاً من الاكتشاف والبحث وإنتاج المعرفة، مع كل ما يرافق ذلك من إشكاليات التخطيط للتطوير وتطبيق سياسات المحاسبة والرقابة، بسبب ضبابية التشريعات التي لا تزال موضع أخذ ورد بدون وفاق واتفاق حول مضامينها.
أننا إذا أردنا أن نقلل من إشكاليات المستقبل القريب فعلينا أن ننظر بواقعية للمشكلات البنيوية التي تؤدي إلى ركود تطوير التعليم، الأمر يتطلب معالجات جذرية لكثير من الإشكاليات، لأن معالجة الجزئيات لن يجدي نفعا، بدون الاهتمام بدراسة السياق الذي انتجها، مع العناية ببناء الإرادات ومراجعة أداء الإدارات المختلفة المشرفة على مؤسسات التعليم، أن الأمل في أن تقوم مؤسسات التعليم ببناء أفراد قادرين على مواجهة التحديات التي تكلمنا عنها في بداية هذا المقال.