بين أدب الاختلاف.. وافتعال الخلاف

 

 

مسعود الحمداني

 

تقوم الحياة على الاختلاف، ولأنها كذلك فعلينا أن نرى الأشياء من باب واسع، وفكر مستنير، فالعقل كما العمل يعتريهما الخطأ والصواب، والوحيد الذي لا يخطئ هو من لا يعمل.

ولعلَّ أطروحات البعض تقوم في أكثر الأحيان على التشدد في الأفكار، ولا تسمح بالاختلاف، (فصديق عدوي.. عدوي) كما يقولون، ولهذا يعيش هذا التعصب في عقلية خاوية في أكثرها، من الوعي، ولا تسمح بالاختلاف معها، مليئة بالفكر الأجوف، والخلاف، لذلك يجب أن نقف قليلا مع أنفسنا، علينا أن نحترم الآخرين، ووجهات نظرهم، إذا أردناهم أن يحترموا وجهات نظرنا، هكذا يجب أن تسير الأمور، فالقطب الواحد، أو الرأي الأوحد لا يخرج من كونه غباء مفرطا، وعنادا باهظ التكاليف، قد لا ندفع فاتورته في هذه اللحظة، بل ندفعها في وقت آخر، بعيدا أو قريبا، خاصة إذا كان هذا التطرف نابعا من مسؤول في مؤسسة ما أيا كان موقعه، لا يرى الأمور إلا من زاويته البسيطة، ويختزل المؤسسة في شخصه، فالحديث عن (إدارته) هو هجوم عليه شخصيا، وينسى أن هذه المؤسسة كيان ثابت له أصوله وسياساته وأهدافه العامة، وأن هذا الكيان لا يرتبط بشخصه ومنصبه وكرسيه المتغيّر؛ فالمؤسسات العريقة هي التي تكتسب أهميتها، وهيبتها من ثوابتها، وأسس تكوينها، وليس من أشخاص مسؤوليها.

الاختلاف يدعونا إلى أنْ نفهم ما نكتب، وما نقول، ولا يجب أن يحوّلنا إلى قطط شرسة تدافع عن أخطائها، وهذه المكاشفة مع النفس، والصدق معها، هو ما يسمونه (نقد الذات)، فمتى كنّا صادقين مع أنفسنا، كنّا أكثر قربا من الحقيقة، وأكثر دنوّا من التصالح مع الآخرين، أما مسألة التزمُّت، والعناد، والإصرار على الخطأ فلا يعطينا مجالا للعمل في جو نظيف، وخالٍ من الشوائب، من أجل الرقيّ بذواتنا، وتعاملاتنا، وخلافاتنا التي يجب أن نصحح مسارها لتصب في صالح الفكر، والإبداع، لا القطيعة، والتنافر، والتناحر، وهذا هو المحك الرئيسي لتحويل الخلاف، إلى اختلاف، صحيّ، قائم على فرضية أن: "رأيي صوابٌ يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب".. وهذا المبدأ هو القاعدة الذي يجب أن تسير عليه الحياة.

الاختلاف في الرأي لا يجب أن يقود إلى قطيعة، ولا إلى خصام، أو نزاع شخصي، بل يجب أن ينظر إليه على أساس أنه أمر طبيعي، وحاصل، ولا يمكن التحكم فيه، أو السيطرة عليه، وعليه يقوم الكون، و(ثنائية) النظرة للشيء الواحد، لذا يجب أن نرقى بخلافاتنا، وأن نتعامل معها بوعيّ يفضي بنا إلى دروب الحقيقة، وليس إلى افتعال الأمور، وتشتيت الشمل.

وما نراه حاليا من تشدد البعض في رأيه، ومحاولته التشويش على آراء الآخرين، ما هو إلا لباس تختفي وراءه غايات، مفرطة في الغلوّ والتعصب الفكري، والتطرف الذي يلعب على وتر العاطفة الشعبية، دون اكتراث لما يطرحه الآخر من أفكار، قد تكون مقبولة، وواقعية، إلا أن هؤلاء المتعصبين، لا يسمحون لهذه الأفكار بفرصة للظهور، ومن ثم الحكم عليها، بل يأدونها في مهدها، كي لا ترى الحق، أو الرأي الآخر النور، وحتى تظل (راية الحقيقة) ملكا لهم، وخاصة بهم كما يتوهمون.

مُشكلة البعض تكمُن في "هشاشته"، وعدم قدرته على الاستماع لصوت العقل والحقيقة في داخله، وعدم الإنصات حتى لصوته الخاص، ولا يفرّق بين الخاص والعام، ويتجه للصراخ أحيانا لأنه لا يملك أسس الحوار، وحتى لا يظهر حجمه الحقيقي أمام الآخرين، فهو لا يرد على الحجة بالحجة، ولا يدحض الفكرة بالفكرة، ويعتقد بأنّ رأيه صواب، على طول الخط، ورأي غيره خطأ يعتريه الشك، دون أن يعطي لنفسه مساحة من التسامح، والنظر إلى ما هو أشمل وأعم؛ ولذلك تسيطر هذه الفكرة المتعالية على كل أموره، ولا يجعل بين ما يُعتبر وجهة نظر خاصة، وبين (شخصنة) الأشياء، فاصلا أو حدودا، فتراه يخلط الشخصي بالعام، والعكس، ويتطرق إلى الأشخاص بعيدا عن المضمون، ويسمِّي الأمور بغير مسمياتها، اعتقادا منه بأنَّه بتهميش الآخر ينال منه، ويشفي غليله، وهذا أمر مفرط في التشدد، والغلو في الخلاف، دون طائل، ولا يقوم به إلا من لا يملك فكرا واضحا، أو من يفتقد إلى رؤية تفرّق بين شخصه وبين مؤسسته، وهو نوع من الديكتاتورية التي تودي بالمؤسسات -أيَّا كانت- إلى الهاوية.

لذلك؛ ولكي نصل إلى أرضية ننطلق منها إلى العمل الواضح والناجح، علينا التقيُّد بأدب الحوار، وأبجديات العمل به من حيث الحيادية، والموضوعية، والنزاهة، والتعامل بثقافة الاختلاف التي تبحث عن الحقيقة، وليس عن التهميش، والتغييب، والنيل من الأشخاص؛ لأنَّ ذلك دليل ضعف يخفيه هؤلاء وسط ضجيج مفتعل لا يكاد يسمع فيه حتى صوته.

Samawat2004@live.com