علي كفيتان
كلُّ شيء يتغيِّر بسرعة في الموقع بعد عدة أيام، وفد إلينا جنودٌ نظاميون يرتدون لباسا موحدا، واستقروا في طرف المعسكر قرابة الثلاثين رجلا، لم يكونوا من الريف، يتميَّزون بالانضباط الشديد، وقائدهم شاب طويل في منتصف الثلاثينات يحمل رتبة ملازم، ويناديه الجميع بالبريكي، ولديه إلمام باللهجة الريفية، أحبَّه الجميع، وفي ذلك المساء وصلتْ سيارتان من جهة الشمال (طريق مضي-عيون) تحملان مؤنة قتالية. وفي الليل، حطَّت طائرة تحمل القائد حسن وبمعيته السيد ولسون، وآخر كان يشغل منصبا أمنيًّا كبيرًا. في تلك الليلة، ازدحمَ المعسكرُ، وصحوت على أصوات الجنود النظاميين في الصباح الباكر وهم يأخذون قسطا من التدريبات الصباحية، ذهبتُ مُسرعا وتخفَّيت خلف خيمة المدرسة، وأنا أرقب هؤلاء الأبطال الذين أتوا ليضحُّوا بأرواحهم من أجل الوطن، كان البريكي فارعَ القامة جميلَ المُحيَّا، يقف في زاوية الميدان مشرفا على جنوده. علمتُ لاحقا أنَّ هذه سَرِيَّة أتت من شمال الوطن للدفاع عن جنوبه، وكانت كجزء من الإسناد للمعركة الفاصلة المنتظرة.
وبعد أن صلَّى مُحاربو الفرقة الفجر، لاحظتُ زيادة الأعداد، وكان القائد حسن يجلسُ في غرفة الاتصالات اللاسلكية، ومعه ثلاثة إنجليز؛ هم: السيد ولسون، والسيد حثينوت، وثالثهم قائد الفرقة سعيد محمد، والبريكي، إنَّهم يُخطِّطون على ما يبدو للمعركة، وبين الفينة والأخرى يستدعون أحد المحاربين من الفرقة، خاصة ممن لديه معرفة تامة بطبيعة الأرض، هذا ما استوحيته مما يجري حولي في تلك الأثناء. ونحن في خيمة المدرسة، توافدَ الكثيرُ من الرجال للمعسكر، معظمهم ليسوا منتسبين للفرقة، أفرادا عاديين وشيوخًا وحتى الشباب، كان يوما حافلا؛ فقد تمَّ ذبحُ الذبائح والمراجل تغلي ورائحة اللحم تجوب أطراف المكان، في تلك الأثناء دخل علينا الخيمة القائد حسن، وقال للأستاذ أحمد: "يجب أن تمنح الطلاب إجازة ليومين". كم كُنَّا سعداء، وخرج الجميع مُبتهجا للانضمام إلى هذه الوليمة العامرة، بحضور كثيف للرجال.. إنه مشهد استثنائي لا يمكن أن يُمحَى من الذاكرة.
قبل الظهر، هبطتْ طائرة عمودية أخرى في المعسكر، ونزل منها قادة من الفرق، سمعت الرجال ينادونهم بـ"سعيد بن جيح، وهلال فضل الله" -رحمهم الله جميعا، استقبلهم الشيخ حسن محاد ومرافقوه عند مهبط الطائرة، وتوجهوا جميعا لغرفة اللاسلكي؛ حيث دار حديث طويل بينهم، بينما الجميع ينتظر في الخارج فقد تغدَّينا بينما هم مجتمعون، وغُرِف لهم غداؤهم في غرفة العمليات.
علمتُ لاحقا أنَّ النقاشَ الذي دارَ كان في طَوْر الإعداد للمعركة الفاصلة في منطقة (فشع)، وبحكم صغر سني والمعزة التي كنت أحظى بها عند الشيخ حسن، كنت أتنقل وأدخل عليهم وأجلس بينهم أثناء الحوار، في حين كان الإنجليز الحاضرون لا يفضِّلون وجودي، بينما أبو أحمد -رحمه الله- يمسح على رأسي ويطلب مني أن أحضر له كوبًا من الشاي، لاحظتُ عدم توافق الآراء في غرفة القيادة، فقد كان الجميع يفضِّل مشاركة فرق أخرى من مناطق كانت تتبع لقيادة كل من "سعيد بن جيح، وهلال فضل الله"، بينما الشيخ حسن يرفض تدخُّل أي أحد في هذه المعركة باستثناء الفرق التابعة لقيادته، وفي آخر الحديث طَلَب الجالسون منه الخروج للمحاربين، واستشارتهم بإمكانية دعمهم بأفراد من فرق أخرى لهذه المهمة المفصلية. خرج الرجل، ووقف الجميع، وحسب تقديري بأنَّ العدد يفوق السبعين رجلا بين محاربين وشيوخ ومواطنين منتمين لهذه المنطقة. بينما خرج القادة الآخرون من غرفة العمليات، ووقفوا بعيدا بحيث يرقبون الأمر، خطب القائد الشيخ بن محاد صيراد فيهم، وكان يشحذ همتهم، وعزيمتهم، قبل أن يطلب منهم ما أتى له من أمر، وفي آخر حديث قارب الساعة أرهق القادة المنتظرون للقرار، فرأيتهم يجلسون القرفصاء على الأرض غير راضين عمَّا يدور، أنهى أبو أحمد خطبته بأنْ وَضَع الخياريْن: إما أن نخوض المعركة بأنفسنا ونكون عند حُسن ظن السلطان، وإما أنْ نطلبَ المدد من الآخرين وهم جاهزون وأتوا لذلك، وأشار بإصبعه إليهم. في تلك اللحظة التاريخية، وقف الجميع رافعين بنادقهم في وقت واحد، وقالوا بصوت متحد: "نموت جميعا، ثم نطلب المدد"، وكم كان ذلك مُخيِّبا لآمال المنتظرين، وكان في نفس الوقت مصدرَ فرح كبير للقائد حسن. في تلك اللحظات حرَّكتْ الطائرتان الرابضتان في المعسكر مراوحها، وأقلت القادمين بالأمس إلى معسكراتهم البعيدة؛ لأنَّ القرار اتُّخذ بأن نخوض معركتنا لكي نكون عند حسن الظن السلطان بنا.
أستودعكم الله.. موعدنا يتجدد معكم بإذن الله، حفظ الله عمان وحفظ جلالة السلطان.
alikafetan@gmail.com