كفانا عنجهية

 

 

عائشة البلوشية

 

يا أيّها الإنسان! ما أبسطك وما أشد تعقيدك في ذات الآن، بساطتك الظاهرية قد نستلهمها من سعيك ومشيك ولعبك وأكلك ونومك، هذه العمليات التي تتم بيسر وسلاسة، أمّا تعقيدك فيتضح لنا جليا من مجرد النظر إلى إبهامك، فلو أنك نظرت إلى راحة يدك الآن وأنت تقرأ هذا المقال، وتخيّلت كمية المهام التي لا يمكن القيام بها لو اختفى إبهامك، لذهلت من روعة خالقك الذي أبدع كل شيء خلقه، بل لو أنك أخذت عينك هذا العضو الصغير حجمًا العظيم أداء، وتبحرت في تركيبتها وطبقاتها البالغة الدقة والشفافية، ستجد نفسك عاجزًا أمام مبدعك.

تخرج من بيتك صباحًا بعد أن تكون قد تناولت طعام إفطارك، وتركب سيّارتك وتمضي إلى مقر عملك، وتمارس حياتك بكل يسر وسهولة، وفجأة تقع مغشيًا عليك فيهرولون بك إلى الطوارىء، وبعد الفحوصات الكثيرة يأتيك الطبيب ليخبرك بأّن انسدادا بنسبة 90% يتربع في فتحة شريانك التاجي، فتبحث في وجوه من حولك عل أحدهم يوقظك من كابوس تتمناه حلمًا مريعا حينها، ولكن لا مناص، فتتذكر ما اقترفته من جرائم في حق نفسك، ﻷنك لم تستمتع بالوجود الذي أعطاه لك إلهك العظيم، وشدتك الدنيا بلهوها عن الاستمتاع بنعمه الكثيرة عليك، فجعلت همك أن تكنز أكثر من هذا، وأن تقتني أكثر من ذاك، وتمتلىء حسدا وكمدا كلما رأيتهم نجحوا قبلك، أو امتلكوا ما لا تمتلك، وأبسط الذكريات وأقربها صباح ذلك اليوم قبل أن تخرج من بيتك، عندما كنت عابسًا في وجه أهلك، ومقطب الجبين في وجوه مستخدمي الطريق، وكأنك أنت المُستحق الحقيقي لكل خدمة، وأنّ الجميع في البيت يجب أن يتحمل ذلك العبوس والضيق الصباحي المزمن الذي يعتريك، وأنت الشخص الوحيد الذي يحق له المرور في الطريق بلا توقف أو فرملة، تمضي بقوة دون أن تلتفت بإنسانية إلى أن من حولك يرغبون في القرب منك أو التعامل معك بنفس بشوشة طيبة، بل إنّهم يتورّعون عن رسم ابتسامة على وجوههم حتى لا تلهبهم بسياط نظراتك أو لسانك، قل لي ما الذي جنيته من خلال ما قمت به حتى الآن؟ ببساطة حصدت عدة أمراض عضوية من سكري وضغط وقلب وقولون، وأخرى نفسية من كره وحقد وعصبية، وأنت الذي خدعتك نفسك فظننت أنك قد ملكت الدنيا بين يديك، لم لا نتذكر كلمات العلي القدير في محكم كتابه: (إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولا)..

دامت صداقتهما سنوات عدة، وعندما مات عمّ أحدهما ورث عنه خمسين ألف ريال عماني، سال لعاب الآخر وزيّن له الشيطان تلك النقود، فأغواه بأن يحتال على صاحبه، فبدأ بالحديث عن مشروع واعد، وأنّه سوف يدر عليه الآلاف المؤلفة، ولثقة الأول بصاحبه وافقه، وتمر الأيام سريعا ليستولي الثاني على مال ذلك الذي كان صاحبه، وجعله فقيرا معدما، وتنكر له وفرّ بالغنيمة فرحا ببطولته المزيفة، ومرّت الأيام وتعدل حال الأول، وبدأ يخرج إلى الناس والمجتمع، حتى انتعشت حاله من جديد، وبدأ المال يجري بين يديه، وزوج أبناءه، أمّا الثاني الذي فرح قبل زمن أصبح لا يخرج من باب بيته إلا وهو محمّل بأدويته الكثيرة، رغم ماله الكثير، وتفرق الأبناء من حوله؛ فما الذي جناه هذا الشقي بعنجهيّته؟...

خلاصة الحديث أننا عندما نتخلص من إنسانيتنا الجميلة التي كسانا الله إيّاها، ونمضي في هذه الحياة غير آبهين لكلماتنا التي قد تميت وقد تحيي، أو أننا قد لا نلقي بالا لأفعالنا التي قد تهوي بنا في مغبة الظلم والظلمات، ظلم النفس أو ظلم الغير ممن يحيطون بنا، سوف نستسهل كل عمل ونستبسطه؛ وهو عند الله عظيم، فنمرر ورقة أو نجيز معاملة أو نقود سيّاراتنا برعونة، ثم نكتشف أن تلك الورقة جعلت من فلان ظالمًا لفئة معدمة من البشر، وأنّ تلك المعاملة قد مكّنت غير ذي كفاية أو كفاءة من الوصول إلى ما لا حق له فيه، وأنّ قيادتنا بتلك الطريقة الرعناء جعلتنا حبيسي الكرسي المدولب، وأفقدتنا أغلى الأصدقاء والأهل، فلماذا العنجهية؟ ولماذا نتعامل مع مجريات الحياة وكأنّها ستنقضي بلا عودة؟ ولماذا لا ندرك بأنّ كل شيء يدور في فلك، وما ودعناه اليوم من فعل سيعود إلينا غدا بأضغاف ما قدمناه من خير أو شر، فـ(كل في فلك يسبحون)؛ والله إنّ الحياة في حد ذاتها نعمة وأي نعمة، مهما بلغت صعوبة مجرياتها وصروفها، وأن نتذكّر دوما بأنّه تعالى (يدبر الأمر)، يجعلنا نريح نفوسنا من عناء الهموم، وأنّ الذي خلقنا لن ينسانا في جميع الأحوال، لذا يجب أن نتعامل مع الآخر بإيجابية مهما بلغت قوة سلبيته، وأن نستمتع بكل ثانية ونعتبر ثواني أعمارنا نِعمًا سابغة لنحمده عليها.

توقيع:

"يا أيّها الإنسي.. عش بيسر ودع أخلاقك لشخصك مطيّة؛ فأنت من طين خلقت.. كفاك عنجهية".