محاكمة المفسدين في الأرض

 

 

حمود بن علي الطوقي

ذات طفولة بعيدة، كنت في صحبة والدي - رحمه الله تعالى - وكنَّا نقطن في مدينة روي، حيث كان إماماً لجامع السُّلطان قابوس وكان عند ذهابه إلى المسجد لا بد أن يتوقَّف عند إشارة المرور التي تمّ تجذيرها في الأرض، بالشارع المقابل للمسجد يومها قال لي أبي: (هذه الإشارة تُحقق العدالة، تقف عند الأحمر، وتمشي بعد الأخضر، وإن خالفت ذلك تصبح قابلاً للعقوبة)، لأنّ الإشارة حققت بُعدها الرمزي، وصار النَّاس مُتفقين على أنّها تساوي بينهم، ولا تُفضّل أحداً على آخر.

استحضرتُ حديث والدي رحمه الله عن إشارة المرور وتحقيقها للعدالة وأنا أتابع التجاذب حول قضايا الفساد الذي وصل إلى اتهام أروقة القضاء بممارسة هذه الآفة، وهذا الأمر ينعكس سلباً على المنظومة القضائية التي تقف عليها أركان الدولة. فرائحة الفساد كريهة ولا يتقبَّلها المجتمع فإذا وصلت هذه الرائحة إلى أروقة القضاء فعلى الدنيا السلام، وهنا تظهرالحاجة إلى إيجاد آلية للتطهير من أجل المُحافظة على نزاهة القضاء.

من الذاكرة العُمانية، يمكن استرجاع شكل التقاضي، وصيغة الحضور العدلي لدى النَّاس، من خلال حضور المتخاصمين في مجلس القاضي، وأذكر في هذا المقام مجلس عمي رحمه الله الشيخ عبد الله بن محمد الطوقي، عندما كان يستقبل المتخاصمين الذين يتناولون جميعهم قهوة واحدة من وعاء واحد، ثم يقول المتخاصمان ما لديهما من حجج، وبعدها يتم الفصل بينهما، ثم يخرجان متصافيين متراضيين، دون الحاجة إلى وصول القضية إلى القاضي وكأن لم يكن بينهما خصام وخلاف؛ السبب يعود إلى أنَّ العُرف الاجتماعي يُعطي القاضي موقع المثال المحذُوّ حذوه، الحائز على الثقة، الباحث عن الصلح والعدل، من دون مآرب خاصة، وهذا يجعل التعاطي المجتمعي مع المشاكل والقضايا مُمكنة الحل سهلاً..

 

في بيئة التقاضي العُمانية، كانت محددات اختيار القضاة تضع في عين الاعتبار العلم والأمانة والصلاح والتقوى وحسن السيرة الشرعية، باعتبار أنّ واجهة التقاضي شرعية، في حين أنّ التحوّل نحو المجتمع المدني المؤسسي غلّب الأكاديمي على فرضية الصلاح، فظهرت علامات عدم الاكتفاء من كل شيء، وهذا قاد إلى ما لم تُحْمد عقباه..

 

 

استقلالية القضاء وأن (لا سلطان على القضاء) لم يشفع للبعض من مُتقلدي القضاء من الأكاديميين كي يتحرروا من الشغف بالدنيا، فظل احتياجهم للاستزادة المفرطة واقعاً مرئياً، ولم تشفع الهبات والأراضي في كفّ العين واليد عن النيل مما لا حق لهما فيه، فنال ذاك من صلاح الذات، ثم نال من صلاح العدل، وانتشرت المصالح والرّشى..

 

المقدّرات التاريخية حق لكل مُواطن، ولكن الفساد الذي (فاحت) رائحته خرج من جغرافيا المكان، بل يكاد أن ينال من هيبة المقدّرات ذاتها، استنادًا إلى ملفات مختلفة، فليس هذا ما سعى إليه المقام السامي لحضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس - حفظه الله- طوال هذه العقود، لأنّ النيل من العدل هو النيل من المقدّرات ذاتها.. ويقول الله تعالى في محكم كتابه العزيز "ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها".

وكوننا نعيش في زمن منفتح، فهذا معناه المواكبة، سواء كان على المستوى الفضائي أو التقني وصار لا بد من تأكيد عملي على أن تكون الوظيفة الإعلامية المؤسسية والإستراتيجية مبنية على فكرة صون المقدّرات، وفتح باب النقاش حول ملفات مسكوت عنها، فالكل يُريد الخير لـعُمان، والكل يعمل من أجل تحقيق ذلك، وهذا لن يحصل من دون شفافية ووضوح، الفساد ينخر في العظم، ويستهلك الطاقات الإنتاجية للأجيال، ويُعطي صورة لا نحتاجها عن أنفسنا دولة وشعباً، لذلك وجب إعطاء الإعلام صلاحياته الطبيعية، التي يتواكب مع الواقع، ليفهم التحولات، وبالتالي نقلها بأمانة إلى الناس، فالصحافة سُلطة، والإعلام مرآة..

 

 

نريد صوتنا منِّا وإلينا، من دون اتّكاء على ما لا نرغب فيه ولا نقبله، بل ولا يمثلنا.