المتخم والجائع

 

أحمد الرحبي

الجوع كافر مثلما يقولون، وهو الأمر الذي حدا بالبشر منذ فجر التاريخ على الأرض لضمان سد غائلة جوعهم إلى الطعام وتحقيق الشبع والتغذية الكاملة، إلى مراكمة مائدة متنوعة من الأغذية، لكن هذه المراكمة على تنوعها كان ينقصها طوال التاريخ التوزيع الطبيعي العادل بين البشر، وذلك سواء بسبب شح الموارد الغذائية في بعض المناطق وعدم كفايتها لتحقيق التغذية الكاملة للكتلة السكانية المتركزة هناك، أو بسبب جشع الإنسان وطمعه، وانفصاله الأناني عن واقع أبناء جلدته وعدم الإحساس بظروفهم القاهرة.

وعلى قدر سعادتنا الكبيرة بالشبع، والوفرة في المأكل والمشرب وتوفر الموارد الغذائية بكثرة بشكل عام في حياتنا، في حالة فريدة من كرم الطبيعة تجعل غذاءنا في متناول أيدينا بسهولة ويسر دائمًا، دون مكدة أو تعب يبذل في سبيله، إلا أنّ انتفاء الجوع -قد يكون– مأساة بحد ذاته لم يتطرق إليها أحد من قبل، على غرار تلك الأمراض اليتيمة التي لا تحظى باهتمام الباحثين، فلا يُثير اللاجوع أيّ قدرٍ من الفضول بشأنه إلا في مكان واحد، حسب ما تتحدث الكاتبة البلجيكية إملي نوثوب في سياق روايتها (بيوغرافيا الجوع) فهي تتحدث عن جزيرة تقع وسط أرخبيل من الجزر في المحيط الهادي تدعى فانواتو – عبارة عن أرخبيل يعرف في الماضي بـ هيبريدس الجديدة.. يقع في عرض البحر قبالة شواطئ كاليدونيا الجديدة وجزر فيدجي، كان خاضعًا في السابق لحكم ثنائي بريطاني فرنسي- لم يعرف الجوع أبدًا، فنظراً لميزتين حظيت بهما الجزيرة وكلاهما نادرتين وقلما يجتمعان في مكان، وهما الوفرة والانعزال، جعل ذلك جزيرة فانواتو تحفل بكثرة الفواكه التي تنضج في أغصانها من شدة وفرتها، وبالأسماك والأطعمة البحرية التي تتوافر بكثرة في محيط الجزيرة، وتصف المؤلفة الحال إزاء هذه الوفرة من الطعام، بأنّه ما من شهية إلى الطعام في جزيرة فانواتو، فالنَّاس حسب ما تصفهم يأكلون من قبيل المراعاة واللباقة، لكي لا تشعر الطبيعة، وهي هناك تُعتبر ربة المنزل الوحيدة، بالإهانة: لم يتكبد المرء مشقة ابتكار صنوف من الحلوى عندما توفر له الغابة فاكهة لذيذة الطعم فاخرة إذا قارنا بها صنوف الكعك التي نبتدعها نحن لبدت مبتذلة وبلا طعم؟ ولم قد نشقى في إعداد أنواع الصلصلة عندما يكون طعم عصارة الصدفيات ممزوجة بحليب جوز الهند الصلصلة التي تجعل من كل مزيج نعده في مطابخنا أقرب إلى طعم المايونيز المنفر؟ تتساءل المؤلفة في ظل حالة الاكتفاء من الطعام والوفرة في الغذاء بهذه الجزيرة، وهو الأمر الذي قد لا يُثير أي قدر من الفضول بشأنه، فيما عدا أهل فانواتو، حسب ما تعتقد الكاتبة البلجيكية أميلي نوثومب، التي ترى أنّ الناظر إليهم يشعر بأن السأم مُقيم في نفوسهم :كأنهم لا يكترثون بأيّ شيء، حياتهم لطالما كانت نزهة متبطلين مستمرة، يعوزها السعي دائمًا.

ولكن برغم ذلك مقارنة بالشبع يبقى الجوع قاسياً وغير محتمل بالمرة، وهذه الصفة -القسوة- تأتي ربما مما يخلفه الجوع من حيث هو نقص حاد في الغذاء والطعام الذي يسد جوع البطون الخاوية طوال التاريخ، من أثر على الصحة وعلى حفظ الحياة نفسها واستدامتها، ومن أثر عميق لألم إنساني لا يُبارح النفس بسهولة يخلفه الجوع، يتقاسمه الجائع والمتخم سواء بسواء، ألم وجوع شهدته حضارات كثيرة مرت بخضات عنيفة وقاسية من ندرة الأغذية وعدم توفر الطعام بشكل كافٍ لإطعام شعوبها ورعاياها، وهو الوضع الذي خلف آثارًا عميقة في الجسد السكاني لكثير من الشعوب صحية ووراثية ظلت ملتصقة عبر آلاف السنوات في الجينة الموروثة للأفراد، كما ساهمت في تكوين نمط الغذاء وتناول الطعام اليومي عندهم، وصاغت بدقة تفاصيل هوية الطبخ لديهم، وبالنظر إلى كوارث المجاعات التي شهدها العالم خلال فترات التاريخ سواء نتيجة الحروب والغزوات أو نتيجة الكوارث الطبيعية وعلى رأس هذه الكوارث الجفاف وانقطاع الأمطار التي تؤثر مباشرة على الموارد بين شعوب قد يكون اعتمادهم الكلي على ما تنتج الأرض، بالنظر إلى ذلك لا يعتبر الجوع أبدًا استثناءً في التاريخ ولم يكن تفصيلاً عابراً في سجله الحافل بالكوارث، أبعد من ذلك يمكن القول بدون مبالغة في ذلك، بأنَّ كل شعب من شعوب العالم قد نال نصيبه من الجوع خلال فترات التاريخ، وهناك من المؤرخين يؤكدون على مكانة الجوع في التاريخ وحضوره الدائم، وأن الشعوب يعتبر بدون مواربة الجوع هويتها الأسمى، وبأن كل أمة هي معادلة متمحورة حول الجوع، ذلك أنّ من يُعاني جوعاً خارقاً ولو مرة واحدة في حياته، لا تكون شهيته بعدها كبيرة ومتزايدة التطلب فحسب، بل تكون له شهيات أكثر صعوبة، فبرغم أن الجوع ألمه يزول بسرعة، لكن بعد ذلك يُعاني المرء آثاره، متناسيًا ربما عذابه، ويحضر كأبلغ مثال في التاريخ للجوع بين الأمم، الصين التي يُمكن وصفها بزعيمة البطون الخاوية، فيقال بأنّ ماضيها هو سلسلة متصلة من الكوارث الغذائية أسفرت عن أعداد لا تحصى من الموتى، فكان على الصينيين أن يعتادوا أكل ما لا يؤكل على الدوام، وهو الأمر الذي يُفسر هذا القدر من رهافة الذوق في فن الطبخ لدى الشعب الصيني، وتعدى جهدهم المبدع في معايشة الجوع طوال فترات التاريخ والتكيف معه، أو بدافع منه في الحقيقة، إلى التفوق في الإبداع الحضاري بكل تألق ومهارة، فالصينيون يكاد أن يكونوا اخترعوا كل شيء، وفكروا في كل شيء، وفهموا كل شيء، وتجرأوا على كل شيء، وذلك بسبب كونهم اعتادوا أن يحقنوا أنفسهم بمنشط الجوع!.

 وسرد قصة الجوع والحاجة إلى الطعام من قبل ملايين من البشر مازال مستمرًا حتى في ظل الرفاهية في سبل العيش نتيجة التطور والثورة العلمية التي انعكست على كافة مجالات الحياة في عصرنا الحديث، قصة تسندها الكثير من الحقائق الصادمة في الواقع العالمي، خاصة في ظروف ازدياد عدد السكان في كرتنا الأرضية بمقدار أربعة أضعاف خلال المائة والخمسين عامًا الماضية، فقد تزايد عدد السكان خلالها على الأرض منذ عام 1950 عما كانت عليه الزيادة في عدد السكان خلال الأربعة ملايين عام الماضية، وللحاق بهذه الزيادة في عدد السكان بشكل لاهث فقد تضاعف إنتاج الغذاء في العالم ثلاث مرات منذ الحرب العالمية الثانية، متخطيًا بذلك حتى النمو السكاني، وربما كسب البشر جولة بذكائهم العلمي في تحقيق المضاعفة في إنتاج الغذاء، نقول ربما كسب البشر جولة واحدة بإزاء زيادة مهولة في السكان يشهدها العالم، فقد استطاع إنتاج الغذاء أن ينمو بشكل أسرع من النمو السكاني بعد الحرب العالمية الثانية، وبرغم تحقيق هذه الزيادة الكبيرة في إنتاج الطعام فإنها لم تستطع ردم الهوة في الحاجة إلى الطعام الذي يعيش ظروف نقصه ملايين البشر في عالمنا اليوم، خاصة إذا ما عرفنا أنّ هذه الزيادة المحققة في إنتاج الغذاء هي جلها ترتبط بالسوق كإنتاج واستثمار تجاري، مما يجعل منه سلعة ربحية خاضعة للعرض والطلب -وما أكثر المرات التي لجأت فيها الشركات الغذائية المصنعة إلى إعدام ملايين أطنان الغذاء وآلاف لترات الحليب بسبب عدم تحقيق المكسب المرجو في سعرها في السوق- وليست صدقة أو هبة إنسانية، وكل هذه الزيادة في إنتاج الغذاء في النهاية تأتي على حساب الموارد الطبيعية، فوفقًا لأغلب التقديرات فإننا قمنا باستغلال الموارد الطبيعية منذ عام 1955 بما يتجاوز استغلال البشر لها على مدى التاريخ.