"لئن شكرتم لأزيدنكم"

 

 

عيسى الرَّواحي

تحدَّثتْ خطبة الجمعة الماضية عن شكر نعم الله تعالى، وأنَّ شكر النعم من صفات المؤمنين؛ فالمؤمن شاكر في النعماء صابر في الضراء، فعن صهيب بن سنان -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله علي وسلم- أنه قال: "عَجَبًا لأمرِ المؤمنِ إِنَّ أمْرَه كُلَّهُ لهُ خَيرٌ وليسَ ذلكَ لأحَدٍ إلا للمُؤْمنِ إِنْ أصَابتهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فكانتْ خَيرًا لهُ وإنْ أصَابتهُ ضَرَّاءُ صَبرَ فكانتْ خَيرًا لهُ".

ولا رَيْب أنَّ المؤمن الحق وهو يتقلَّب في النعم الكثيرة التي لا تعد ولا تحصى "وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ" يُوقن تمامَ اليقين أنَّ كل نعمة يعيشها وينعم بها أيًّا كانت هذه النعمة صغيرة أم كبيرة، ظاهرة أم باطنة، فهي من الله تعالى ليس له فيها سلطان؛ حيث يقول سبحانه في كتابه العزيز: "وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ" (النحل:53).

وأوضحتْ الخطبة -كما هو معلوم لدى الجميع- أنَّ قانون بقاء النعم وزيادتها، هو شكرها، وليس من أحد أحق بالشكر من الله تعالى، أما كفرانها فهو طريق زوالها، يقول الله تعالى: "وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ" (إبراهيم:7).

وبما أنَّ النعم قد لا تدوم عند صاحبها؛ فهو بلا ريب في أمسِّ الحاجة للمحافظة عليها، ومن أبرز طرق محافظتها شكرها، وليس شكرها ترديدًا باللسان فحسب، وإنما ترجمة عملية في واقع الشاكر للنعمة، وكل نعمة لها طرق شكرها، بعد أن يُؤمن المرء بأنها من عند الله تعالى ويشكره عليها، ويمتثل طاعته، فشكر نعمة الصحة في أداء العبادات على أتم وجه دون تقصير، وأداء العمل بحرص وإتقان، وتقديم العون والمساعدة لكل محتاج، وشكر نعمة المال في زكاته وإنفاقه في وجوه الخير، وشكر نعمة العلم في نشره والعمل به، وهكذا سائر النعم حسب مقتضاها، وهي كلها بحاجة للمحافظة عليها فالمرء مسؤول يوم القيامة عن جميع النعم، ومحاسب عليها، يقول تعالى: "ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ" (التكاثر:8).

وفيما أحسب أنَّ موضوع خطبة الجمعة الماضية وهو شكر النعم لم يكن توقيته عشوائيًّا، وإنما جاء تزامنا مع احتفال السلطنة بيوم النهضة المباركة التي صادفتْ يوم السبت الماضي، في إشارة تلميحية -إن لم تكن تصريحية- إلى أهمية تقدير ما تحقَّق على أرض الوطن من مُنجزات كبيرة تستوجب الشكر والمحافظة عليها والتحدث بها مصداقا لقوله تعالى: "وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ" (الضحى:11).

وحيث إنَّه لا غبار ولا نكران لما نعيشه من نِعَم عظيمة ومنجزات كبيرة متوالية على أرض الوطن العزيز عُمان منذ انطلاق النهضة المباركة عام 1970م بقيادة حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد -حفظه الله ورعاه- وأنَّ ذلك يستوجب علينا شكر هذه النعماء والمحافظة عليها، وأولها نعمة الأمن التي أسبغها الله تعالى على هذا البلد العزيز، وحيث إنه لا ينكر النعماء إلا جاحد كفور، فإن ذلك لا يعني أن المطالبة بالحقوق، والنقد الذي يبديه أبناء الوطن بمختلف أطيافهم ومستوياتهم الوظيفية تجاه بعض السياسات الحكومية، والتذمر والاستياء الذي يعانيه الكثير من ضعف وسوء بعض الخدمات المتوفرة، يتعارض مع شكر النعم، وﻻ يدل على أنَّ أمثال هؤلاء الناقدين أو المطالبين غير شاكرين للنعم، فشتان شتان ما بين الأمرين، ولا أرى أيَّ علاقة بين هذا وذاك، ومما يؤسف له حقا أن يربط اليوم كثير من الناس بين هذين الأمرين، فكل من شكا ونقد وانتقد اتهم بأنه لا يشكر النعمة، وأنه لا يقدر رغد العيش الذي هو فيه، ولا يرى حال غيره من الشعوب البائسة الفقيرة المحرومة، وقد يتهم بأكثر من ذلك، وهذا في حقيقة الأمر مغالطة كبيرة يجب على من وقع فيها أن ينتبه إليها، ويعيد النظر فيها ويتراجع عنها، وقد أشرت أكثر من مرة في مقالات سابقة أن نقد السياسات الحكومية لا يتعارض مع حب الوطن، كما أنه لا يتعارض مع شكر النعم.

إنَّ من حقِّ أيِّ فرد، بل من الفطرة السوية، أن ينشد الواقع الأفضل والعيش الرغيد مهما أوتي من نعم، بل إن من واجب شكر النعم والمحافظة عليها عدم السماح بالنيل منها وهدرها والعبث بها، والسكوت عن مثل ذلك إنما هو رضا بالمنكر وركون إلى الظلم قد يودي بأصحابه إلى النار وبئس المصير، يقول الله تعالى: "وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ" (هود:113).

وكما أنَّ المسلم مُطالبٌ بأن يشكر الله على كل نعمة أنعمها عليه، فهو مطالب كذلك بأن يُطالب بكل حق من حقوقه. ومع إيماننا بأن شكر الناس الذين يكونون سببا في حصول أي نعمة يُعد من شكر الله تعالى -مصداقا لقول الرسول صلى الله عليه: "لا يشكر الله من لا يشكر الناس"- فإنَّ مما ينبغي أن نُوقن به في أنفسنا، ونغرسه في قلوب أبنائنا وطلابنا أنَّ جميع النعم صغيرها وكبيرها، جليها ودقيقها، ظاهرها وباطنها، ما علمناه منها وما لم نعلمه، إنما هي من الله تعالى وحده لا غير، وما البشر إلا أسباب فقط سخَّرهم الله تعالى لخدمة لبشر لينعموا بنعمائه التي يهبها لمن يشاء من عباده فيضعها كما يشاء ويرفعها وقتما يشاء، ومن اعتقد غير ذلك فقد أشرك بالله، وكفر نعمائه... والله المستعان.

issa808@moe.om