علاقتنا بالقرآن الكريم (6)

 

 

عيسى الرَّواحي

تحدَّثتُ في المقال السابق عن علاقتنا بالقرآن الكريم من حيث اتباعه، وأوضحتُ أنَّ أشد أنواع هجر القرآن الكريم هو عدم اتباعه، والعمل بأحكامه. ولا ريب أنَّ عدم اتباع القرآن الكريم إنما هو إعراضٌ عنه، والمُعرِض عنه يُعرِّض نفسه للشقاء والخسران ودخول النار وبئس المصير، فإذا كان هجره -تلاوة، واستماعا، وطلب شفاء- حرماناً من نيل الفضل والبركة، فإنَّ هجره فيما يتعلق باتباعه إنما هو شقاء وخطر عظيم على صاحبه؛ يقول تعالى: "كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا" (طه:99-101)، ويقول أيضا: "وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى" (طه:124-126).

ولعلَّ ما ذكرناه في المقالات الخمسة السابقة بشأن هجر القرآن الكريم قد يخص الأفراد فقط، وهناك من أنواع الهجر ما يخص الأفراد والدول أو الحكام والمحكومين، وهو هجر تحكيم القرآن الكريم والتحاكم إليه.

ولا رَيْب أنَّ هَجْر القرآن الكريم تحكيمًا واتِّباعا هو ما أوْصَل المسلمين إلى هذا المستوى من الحضيض الأسفل، وما بلغ بهم من دركات الذل والضعف والهوان والتشرد والتشرذم والتشتت والانقسام والهزيمة والانكسار، ويصعب بل يستحيل أن تقوم للمسلمين قائمة إذا ابتعدوا عن القرآن الكريم، ولم يتبعوا أوامره، ولم يحكموه فيما بينهم، يقول الله تعالى في شأن تحكيم القرآن الكريم والتحاكم إليه: "كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللّهُ يَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيم" (البقرة:213)، ويقول أيضا: "أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوْتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُمْ وَهُم مُّعْرِضُونَ" (آل عمران:23)، ويقول أيضا: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا" (النساء:59)، ويقول تعالى: "وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ"، (الشورى:10).

أمَّا الإعراض عن تحكيم كتاب الله والتحاكم إليه، فهو شأن المنافقين كما جاء في الكتاب العزيز، يقول الله تعالى: "وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا" (النساء:61).

ويُبيِّن الرسول -صلى الله عليه وسلم- أنَّ الفتن التي تصيب الأمة لا مخرج منها إلا كتاب الله، إيمانا وتصديقا وتحكيما وعملا وتطبيقا؛ فعن الحارث بن الأعور قال: مررتُ بالمسجد فإذا الناس يخوضون في الأحاديث، فدخلت على علي فأخبرته، فقال: أو قد فعلوها؟ قلت: نعم، قال: أما إني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ألا إنها ستكون فتنة، قلت: ما المخرج منها يا رسول الله؟ قال: "كتاب الله، فيه نبأ ما قبلكم، وخبر ما بعدكم وحكم ما بينكم، هو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أذله الله، وهو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، هو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسنة، ولا يشبع منه العلماء، ولا يخلق عن كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه، هو الذي لم تنته الجن إذ سمعته حتى قالوا "إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِه"، من قال به صدق، ومن عمل به أجر، ومن حكم به عدل، ومن دعا إليه هُدي إلى صراط مستقيم".

ونحن عندما نرى واقع حال المسلمين -حكومات وشعوبا- فإنَّ لسان الحال أصدق من المقال، فأين تطبيق أحكام الله وتحكيمه في شتى أمور الحياة ومجرياتها؟! وأين تطبيق حدود الله وأحكامه وأحكام القصاص كما جاءت في القرآن الكريم في المحاكم والقضاء؟! وأين تطبيق أحكام الله كما وردت في الكتاب العزيز حال النزاعات والخصومات؟! وأين تطبيق أحكام الله تعالى كما وردت في القرآن الكريم في المعاملات المالية والاقتصادية وشتى معاملات عالم المال والأعمال؟! وأين تطبيق أحكام الله كما وردت في كتابه العزيز وسنة نبيه الكريم في شأن تعيين المسؤولين والموظفين، ومحاسبة ومعاقبة المسيئين منهم؟!

ولما كان هذا هو واقع عامة المسلمين اليوم في تعاملهم مع القرآن الكريم، فإنَّ اقتتالهم وتناحرهم وتنامي البغض والكراهية والمذهبية المقيتة بينهم، وغياب أهم مقدساتهم نتيجة حتمية ما دام شرع الله المبين وكتابه المحكم العظيم لا أثر له ولا وجود، ولا غرابة كذلك عندما يتضعضع الاقتصاد وتكثر المعاملات المحرمة، ويعم الفساد وتنحدر الأخلاق ما دام شرع الله غير محكم بين الناس، ولا غرابة كذلك عندما تنعدم عن طائفة كثيرة من المسلمين معنى السعادة القلبية والراحة النفسية والصفاء الروحي، وتتفشى بينهم شتى الأمراض النفسية وأمراض القلوب وضيق الصدور ما دام هجر المصحف -تلاوة وتدبرا وتطبيقيا- حاضرًا في واقع الحياة. ولما صارت القلوب مبتلاة بشتى الأمراض، فلا غرابة أن يكون لديها الصد والإعراض عن كتاب ربها؛ فالقرآن الكريم كتاب عزيز لا تقبله إلا القلوب الطاهرة، وصدق عثمان بن عفان -رضي الله عنه- حينما قال: "لو طهرت قلوبكم ما شبعتم من كلام ربكم".

وختاما.. فإنَّ سلم النجاة، وطريق العزة، وتحقيق النصر، وسيادة الأمن، ومفتاح السعادة، وشفاء القلوب، وطمأنينة النفوس، وطارد الهموم والغموم، وأنيس الوحشة والكروب، ورفيق الدروب، وزاد الخطوب، وقنطرة العبور إلى دار النعيم في جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر لا تتحقَّق إلا بالقرآن الكريم، وتقوية علاقتنا به -تلاوة واستماعا وتدبرا واتباعا وتحكيما- وما دام في العمر بقية، ولا نزال في زمن الإمهال، فلنسارع قبل فوات الأوان، ولنتدارك أنفسنا قبل الندم في وقت لا ينفع الندم، حينها يتمنى المرء أن يعود إلى الدنيا؛ ليصحح مساره مع ربه من خلال كتابه العزيز، ولكن هيهات هيهات، وإنها لدعوة إلى نفسي أولا وإلى القراء الكرام ثانيا بأن نقوي علاقتنا بالقرآن الكريم، علاقة لا تعرف هجرا ولا صدودا؛ لنسعد في الدنيا والآخرة... والله المستعان.

issa808@moe.om