كيف نحافظ على مكوننا الديموغرافي؟

 

د. عبد الله عبد الرزاق باحجاج

في عُدة مقالات قديمة، أطلقنا على مكوننا الديموغرافي القوة النووية، فقد رأينا نتائجها في دعم وإنجاح مسيرة نهضتنا المباركة، وتخطيها كل العقبات التي كانت تعترض طريقها، وكم انبهر العالم بالخروج الجماهيري في كل ولايات البلاد في أول إطلالة لعاهل البلاد -حفظه الله- بعد نجاح رحلته العلاجية، وكم وقفت هذه الديموغرافية في وجه الخارج كلما تمس بلادنا في رموزها أو كيانها المعنوي.

وما يُميزها- أي الديموغرافية العمانية- شعورها بامتدادها المتجذر في عمق الدولة العمانية، وارتباطها بحضارة إنسانية عريقة، تستمد منها شخصيتها وثقافتها، لذلك، فهي محكومة بمنظومة ولاء سياسي وانتماء جغرافي، عميقين جدًا، مما يجعل المحافظة عليهما من أولى الأولويات الوطنية مهما كانت الظروف التي تمر بها بلادنا.

وتلكم مُهمة وطنية مُناطة بكل من يتشرَّف بمسؤولية في البلاد مهما صغُر حجمها أو كبر، ومن لم يضعهما نصب عينيه ـ فعنده إشكال أو مشكلة أو هما على السواء، ومن يقصر فيهما، فقد أخفق في مسؤوليته بامتياز، فكل النجاحات الوزارية إذا لم تنتج لنا أو تساهم في تعزيز ثنائية تلك المنظومة معًا، فنجاحاتها مردودة تمامًا،  من هنا ينبغي أن نطرح تساؤلاً معلوماً بذاته من خلال ما تقدَّم، وهو، كيف نُحافظ على مكوننا الديموغرافي في عصر الأزمة النفطية الراهنة؟ يزداد أهمية طرح هذا التساؤل في ظل جموح السياسة المالية للحكومة، واستهدافها المنطقة الاجتماعية ومكتسباتها التاريخية، ويزداد إلحاحًا في طرحه كذلك، رهان بعض الأنظمة الواعية على مكونها الديموغرافي لمواجهة كبرى الإكراهات والتحديات الداخلية والخارجية، ونجاحاتها الباهرة مؤخرًا، فهل ينبغي تعزيز المكتسبات الاجتماعية أم العمل على تآكلها؟.

هذا التَّساؤل نطرحه استمرارًا لحملتنا المتواصلة لدواعي رفع الوعي السياسي بقوة المكون الديموغرافي للدول والأنظمة على السواء، وهذا ما يستدعي بالضرورة إعادة هذا الملف في ضوء ما تأكله تصعيدا وتصاعدا سياستنا المالية من مكتسبات اجتماعية بسبب ضغوطات الأزمة النفطية، وبفعل تلك السياسة، تراجعت كثيرًا مكتسبات حق العمل وحق زيادة تحسين مستوى المعيشة للمواطنين..إلخ وأصبحت الضرائب والرسوم ورفع الدعم عن بعض الخدمات الأساسية..... إلخ تفقد القوة النسبية لأصحاب الدخول الضعيفة وحتى المتوسطة، ومعها نزلت الثقة بين الحكومة ومكوننا الديموغرافي إلى الأدنى، فهل ينبغي أن يستمر هذا الوضع طويلاً؟.

التساؤل لابد أن يُطرح بهذه الشفافية في ضوء التَّحديات الكبيرة التي سوف يشكلها واقع ومُستقبل السكان في بلادنا والذي تغلب عليه الفئة العمرية الشابة، فمن سن (15-29) يشكلون (%30) من إجمالي السكان العمانيين، هذا بخلاف عددهم ما قبل (15) سنة، إذن، كم يشكل فئة الشباب والأطفال من إجمالي المواطنين وفي ضوء النمو السكاني الكبير؟ هل تأخذ السياسة المالية للحكومة هذا البعد الديموغرافي وبالذات خصوصيته العمرية بعين الاعتبار أم ترمي به عرض الحائط؟ قد أوضحنا الإجابة على هذا التساؤل من خلال مقالاتنا السبع الأخيرة بالتفاصيل المسهبة، وتأكد لنا من خلالها غياب الاعتداد بها تماماً، ربما لافتقار رجال المال والاقتصاد للحس السياسي والاجتماعي، وربما لأنهم غير معنيين به، ولو استمر الوضع كما هو عليه، فسوف تدخلنا سياستهم المالية المجردة في تحولات مُجتمعية غير مسبوقة، ستدفع البلاد ثمنها كبيرًا، وهو دفع بنا إلى طرح تساؤلنا الإستراتيجي حول الكيفية، بغية تحريك العقل السياسي نحو استدراك سريع لأخطاء السياسة المالية وتداعياتها المحتملة على مكوننا الديموغرافي، خاصة وأنّ الموقع الجغرافي لبلادنا من حيث وقوعها داخل محيط جغرافي متصارع وله أطماع ابتلاعية– جغرافية ومذهبية– قديمة وحديثة، وبعض أطرافه، أثبتت الأحداث الأخيرة، أن جل همه مصالحه مهما أخلصنا معه، ومهما عملنا من أجله ومن أجل استقرار وأمن المنطقة.

والقلة من المطلعين في بلادنا يعلمون ماذا نقصد تحديدًا، وقد تفاجأوا بهذا الواقع رغم أنّ ذلك لم يشكل لنا مفاجأة، إذن، كيف نحافظ على مكون بلادنا الديموغرافي في ضوء تلك التحديات؟.

طبعاً، ليس من خلال عودة ملف الباحثين إلى مربعه إلى ما قبل عام 2011، فقد نصل الآن إلى (140) ألف باحث عن عمل، فكيف لو جمدنا قضايا التوظيف والتعمين والإحلال لسنوات أخرى، طبعاً، لن نُحافظ على قوتنا الديموغرافية من خلال تبنينا فلسفة التشاؤم الغالبة التي ترسخها مجموعة سياسات مثل سياسة سحب الدعم وإلغاء نظام الحماية الحكومية للمجتمع.. إلخ كل أفراد مجتمعنا تغلب عليهم حالة التشاؤم العميقة الآن، فهل مثل هذه السياسات تحافظ على مكوننا الديموغرافي؟، من الذكاء السياسي جعل النفسيات الاجتماعية متفائلة بالغد في المستويات التي تجعلها تقبل كل الاحتمالات، وذلك لخطورة تعميق التشاؤم، والخوف من المستقبل، مما يجعل الفرد يقدم على اتخاذ خيارات دائمة لا يُمكن التراجع عنها عندما تنقشع ظروف التشاؤم، وهي بالتأكيد ستنقشع بحكم التطورات التي أدت إلى الأزمة النفطية، ومؤشراتها قائمة بقوة، وستزول كذلك مؤكدًا، لو أننا ركزنا على الحلول الاقتصادية الغائبة أو المغيبة عن الحل الآني للأزمة النفطية، ويبدو لنا كذلك عن الحل المستقبلي، كما أوضحنا ذلك في مقالاتنا السابقة.

ومن أجل الحفاظ على قوتنا الديموغرافية النووية، ورهاناتنا السياسية الكبيرة عليها، حاضراً ومستقبلاً، مثلما كان ماضيًا، لابد من كبح جماح السياسة المالية، وذلك عبر عقلنتها من المنظور الاجتماعي، فمثلاً إذا كان لابد من فرض ضريبة القيمة المضافة، فينبغي تطبيقها على السلع والمُنتجات التي يكون وراءها فوائد أخرى غير مالية، كأن تُطبق على كل أنواع التبغ بما فيها السجائر، وعلى الخمور.. خدمة للصَّحة، وبذلك نكون قد طوعنا السياسة المالية للدولة لخدمة قضايا اجتماعية ووطنية في ظل الأزمة النفطية، وهذه فرصتها المواتية لها الآن، لن تتوفر لها مستقبلاً.

ولدواعي الحفاظ على قوتنا الديموغرافية، فإنّ الحل المالي ينبغي أن يطال قطاعات ووزارات لم يقترب منها حتى الآن، ولن يقترب منها من تلقاء نفسه لحساسيتها، فأيهما الأهم، الحد من نفقاتها وترشيدها أم إضعاف قوتنا الديموغرافية؟! إنّه خيار قد أصبح لازماً التَّعاطي معه من منظور الحل المالي، وهو سيكون محسوماً لصالح قوتنا الديموغرافية إذا ما كان هناك اقتناع سياسي رفيع المستوى بالرهانات المستقبلية على الديموغرافية العمانية كقوى تفوق القوى الأخرى مهما تعاظم شأنها- التجربة التركية الأخيرة أنموذجًا- رغم أنّ مسيرة نهضتنا العمانية المباركة قد سبقت في البرهان على تفوقها، وعملت على تشكيلها وتعزيزها، كما سلفت الإشارة إليه، وانتصرت على تحديات زمانها ومكانها، لذكاء السلطة السياسية، فهل نترك للسلطة المالية تمس جوهر قوتنا الديموغرافية؟.

التساؤل لا يزال قائماً، وهذه المرة، ينبغي أن نبحث الإجابة من المنظور الاقتصادي، وهو متاح وبكل سهولة، العائق فيه، أن رجال الاقتصاد لم تتوافر لديهم النية في الانفتاح نحوه، ودون تكرار ما تناولناه من حلول في مقالات سابقة، فإنّ الحتمية تقتضي رفع نسبة عوائد المشاريع الاقتصادية وزيادة مساهمة الشركات الحكومية خلال المرحلة الراهنة، وتلكم مشاريع كونتها الدولة بالمليارات وتضخ فيها سنوياً الملايين، كالموانئ مثل الدقم وصحار وصلالة، وكالمناطق الحرة التي في معظم المحافظات، وكالشركات الحكومية التي عددها الآن (60) شركة.

يجب أن نُحدد نسبة عوائد مئوية معتبرة لكل مشروع ما بين (%30- %40) بصورة معممة، وبعضها وصل ما بين (13-18%) كميناء صلالة – وفق ما ورد في البرنامج الاقتصادي الإذاعي للخبير أحمد كشوب - وهذا غير كافٍ، بحكم قدم الميناء، وبحكم اعتماد الاقتصاد العالمي عليه، وبحكم الملايين التي تذهب إليه من خزينة الدولة. ومن أجل قوتنا الديموغرافية، فينبغي عدم إغلاق أبواب التوظيف والتعيين والإحلال بالمطلق، وهنا، نقترح تشكيل لجنة وطنية بالبحث عن فرص عمل جديدة في الشركات الحكومية وفي القطاع الخاص، وفي الوقت نفسه إقناع الشركات الخاصة برفع مرتبات العمانيين لتحسين دخولهم، ولو اخترنا لهذه اللجنة الشخصيات المناسبة، والمؤمنة بأهدافها، لتمكنت من اختراق حاجز التوظيف، فوضع الشركات الحكومية والخاصة ممتاز، فقد أعلنت الكثير منها مؤخراً عن تحقيق هوامش ربحية كبيرة.

كما ينبغي أن يكون من مهام هذه اللجنة البحث في الإشكاليات التي يعاني منها أبناؤنا في القطاع الخاص والتي أوضحناها في مقال سابق بعنوان،، عدائية ممنهجة.. لتفريغ الحس الوطني، ولو فرغ هذا الحس من مكوننا الديموغرافي، فهل لنا أن نستشرف التحديات؟ فهل وصلت خارطتنا الذهنية عن التحديات والإكراهات التي تواجه الديموغرافية العمانية؟.

إذن.. من ينتابه القلق من التحولات المحتملة التي ستطال المنظومة الثنائية المقدسة للديموغرافيا العمانية كل ما نخشاه تحول مساراتها الرأسية الوطنية إلى مسارات أفقية متعددة ومختلفة ومتعارضة ومرتبطة بالداخل والخارج.