من وَحْي الذاكرة (2)

 

 

علي كفيتان

انتظرت على رأس الرابية التي وعدني عليها أبي، ودارت بي الأفكار، وسافرت بعيدا عن عالمي الصغير؛ لكي أتخيل المدرسة، وكان الخيال يصورها لي كمكان تحت شجرة فيه أطفال يتعلمون المهارات الرجالية؛ وأبرزها: استخدام السلاح والقفز والمصارعة...وغيرها، ومن ثمَّ تخيلتها خيمة مليئة بالأكل وهدفها هو إطعام المحتاجين، وفي خضم تلك الأحلام الوردية للمدرسة، سمعت صوت يناديني من خلفي "أهلا بني، هل اخترت المدرسة؟!" إنَّه أبي وتعلوه ابتسامة توحي بأنه يفتخر بي، منحني قبلة جميلة على خدي، وقال: هيا نذهب، بعد قليل قابلنا العم مسعود، فبلغه أبي أن يخبر الدار بأننا ذاهبون للمدرسة، وعليه تبليغ الأهل بذلك.

كنتُ أركض خلف أبي؛ فخطوة واحدة منه تعادل عشرًا من عندي، وفي وسط الطريق شعر أنَّني تعبت، فحملني في شال كان على ظهره، تمسكت بكتفه اليسرى ورأسي يندس للأعلى، بينما بقية جسمي الهزيل في الشال، هنا الإحساس كأنك تركب طائرة، وكان يُحدِّثني عن المدرسة وعن فوائدها، ويعبر عن اعتزازه بقراري الذهاب معه، وأحسست أنَّ هناك إحساسًا بالحذر يتملَّك أبي؛ فكان يُراقب كل جنبات الطريق ويجلس في بعض المرات ليستكشف خلوَّ ما تبقى من الطريق، لم أفهم تلك الحيطة، ولكنِّي علمتُ لاحقا بأنَّ ظروف الحرب تستوجب الحذر، خاصة وأن الرجل منتسب لجيش السلطان ويحمل السلاح دفاعا عن الوطن.

وفي وَسَط الطريق، وجدنا امرأة وبضعة رجال يجلسون القرفصاء جنب ناقة مريضة، هنا رحَّبتْ المرأة بأبي: "أهلا طوفان"، علمت بأنَّ هذا لقبه، لم أكن أسمعه من قبل، سلمنا وجلسنا والناقة لا تكاد ترى جسمها من كثر الكي، وكان الكل يشارك في هذه العملية بمن فيهم أبي، ورائحة دخان الجلد المحترق تتطاير في جنبات المكان، شربنا قليلًا من حليب الإبل، واستأنفنا طريقنا للمدرسة، كان هناك بعض الناس الذين قابلناهم على الطريق وتغلب عليهم طبيعة التعجب من مغامرة أبي بأخذي إلى المدرسة.

وقبل العصر بقليل، وصلنا لبيت العم علي، رجل طيب، ويحمل من الصفات الطيبة التي يندر وجودها في غيره، رحَّبوا بنا، وكذلك ابنه مسلم كان لطيفا معي، وحملني على كتفه، وكان يداعبني بكلمات طيبة، فهو أحد الأبطال الذين قضوا في تلك الحرب رحمه الله، والابن الصغير هو أزاد كان في سني تقريبا، الأم هي إنسانية عظيمة بكت وأرخت دموعها عندما رأتني، وكانت تنتقد أبي لأخذي للمدرسة، هذه الأسرة الطيبة الكريمة جمعني بها الكثير من المواقف التي لا تُنسى أبدا؛ فأبناؤها كانوا إخواني، والأم أخذت دور أمي، أما العم علي فهو ناصري والوصي علي بعد أبي وخالي في المعسكر حفظهم الله جميعا. بتنا تلك الليلة معهم في الدار وكم أحببت الأغنام التي كانت معهم، خاصةً صغارها؛ فهي التجربة الأولى لي مع ملاك الأغنام.

في تلك الليلة دارتْ أحاديث طويلة بين أبي والعم علي، على وهج النار المتقدة التي تلمع على بنادقهم؛ فهم اختاروا الوقوف لجانب السلطان، ولا شك أنَّها كانت مغامرة من العيار الثقيل في تلك المرحلة، ومعظم الحديث الذي سمعته قبل غرقي في نوم عميق كان عن المستقبل الذي يُراهِن عليه الرجلان، خاصة أملهم في استقرار الأمور وعودة الأمور إلى مجرياتها، في ظل اليد الممدودة من السلطان، وتدفق المساعدات الغذائية والطبية على الأرياف المنهكة منذ عدة عقود، العم علي -حفظه الله- لم يحبذ فكرة الدفع بي للمدرسة، وحاول أن يُثني أبي عن ذلك، مُعلِّلا بأنَّ الظروف غير ملائمة، لكن الظاهر أن أبا محمد قد اتخذ قرارًا لا رجعة فيه؛ فقال له: "إنْ توفَّق كمَّل، وإن لم يتوفق نرجعه إلى الدار"، وكانت هذه هي آخر الكلمات التي تنامت إلى مسمعي قبل الخلود للنوم.

أستودعكم الله، وموعدنا يتجدَّد معكم بإذن الله.. حفظ الله عمان وحفظ جلالة السلطان!

alikafetan@gmail.com