حاتم الطائي
الأحداثُ المتلاحقة التي توالتْ على عالمنا خلال الفترة الماضية، ووتيرتها المتسارعة هنا وهناك، تُنبئ بمستقبل سياسي واقتصادي، بل وأمني، أقل استقرارًا؛ خصوصا وأنَّ تسلسلها أتى بتراتيبية مشوَّهة أحدثتْ شرخا عميقا في جدار السلام والمحبة والتسامح والتعايش.
فلا يكاد العالم يتعافى من صَدْمة إلا ويستيقظ على أخرى أشد منها وقعاً؛ فمن دمار ودماء في العراق وسوريا وليبيا واليمن، إلى تفجيرات تهز قلب أوروبا، ناثرةً جثثًا وأشلاءً لضحايا عمليات غادرة، إلى خروج بريطاني صادم من الاتحاد الأوروبي، وطبول حرب تُقرع في جنوب السودان بين الفصائل المتناحرة، ومظاهرات متزايدة للسُّود في الولايات المتحدة تطالب بحقوقهم، وآمال مسدودة في علاقات مصرية-إسرائيلية تدفع عملية السلام الفلسطيني إلى الأمام، وتقرير شيلكوت الذي فضح مزاعم الكذب والخداع في "غزو العراق"، ومأساة نيس التي هزَّت فرنسا، وصولا إلى ليلة انقلاب عسكري "فاشل" في تركيا.
كُلُّها أحداث ترسم صورًا دراماتيكية تضع الجميع في بحرٍّ من التساؤلات والتكهُّنات؛ تحفِّز صُعودَ التيار اليميني المتطرف في الغرب، وما اصطلح عليه بـ"أزمة قيادة" العالم نحو بر الأمان.
فما حَدَث في نيس يوم الخميس الماضي، لا يُمكن أن نُطلق عليه مجرد عملية إرهابية، بل هو التوحُّش في أوضح صوره؛ إذ اهتز العالم لمشهد الدماء والجثث المغطاة والملقاة على جانبي الطريق، بعد حالة من الهلع عاشتها فرنسا، إثر عملية دهس "بشعة" قام بها أحدهم بعدما اخترق بشاحنته الجموع المحتشدة احتفالا بالعيد الوطني، في هجوم وُصِف بالتحرك الفردي لفرنسي من أصل تونسي، قتل أربعة وثمانين، وأصاب المئات، بما يفتح المجال مجددا أمام الحديث عن المحنة الأمنيَّة التي تعيشها فرنسا، ويسيء لوضعية المهاجرين العرب المعقَّدة أصلا في الدول الغربية.
ولعلَّ الملاحَظ هو استغلال الأحزاب اليمينية المتطرفة في فرنسا لمشاعر الخوف هذه، واستخدام نبرة أكثر عدائية لكل ما هو مُسلم وعربي، في خطاب من الكراهية أشعل مجددًا جذوة حرب شرسة مُعلَنة ومتواصلة منذ سنوات ضد الإسلام والعرب والمسلمين. وفي القلب من هذه الحرب، صوَّر الإعلامُ والساسة في الغرب، العربَ والمسلمين عموما، والمقيمين في أوروبا خصوصا، على أنهم مُتخلفون همج إرهابيون، يُشكِّلون خطرًا على الدول الغربية التي يوجدون بها.. صحيح أن القادة الغربيين يشيرون بين الحين والآخر إلى أنه ليست هناك حرب على الإسلام، وأن الإسلام بريء من الارهاب.. إلا أن التصريحات الإنشائية شيء، والسلوك العملي شيء آخر.
وكما أنَّ "حادث نيس" الأخير لا يُمكن قراءته في سياق مغاير للإرهاب، كذلك لا يُمكن أبدًا أن يُقرأ بعيدًا عن إطار الوجه السيئ للعولمة الجديدة، التي تنتعش وتتغذَّى على الأزمات وتدوير أرباحها، نظرًا لغياب القيم الإنسانية والحضارية الحقيقية التي تقوم على البناء لا الهدم؛ فمثل هذه الأعمال البربرية يقوم بها أفراد يائسون من معنى الحياة، مستفيدين بخطاب مشحون بالكراهية يحمل أفكارًا صدامية وعنصرية يتبناها المحافظون الجدد ومن سار على نهجهم؛ أمثال: بوش الابن، وراميسفيلد، وبول وولفويتس، ودونالد ترامب المرشح المحتمل لرئاسة أمريكا، والمعروف بأفكاره اليمينية المتطرفة ومناداته بمنع المسلمين من دخول الولايات المتحدة - في حين أنها بلد قائم على ديناميكية الهجرة أصلا.
وتغذِّي تلك الأحداث كَسْب التعاطف مع اليمين المتطرف بخطابه العنصري، كما تُبرِّر سياسات التدخل العسكري، كما بدا في حديث الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند في "خطاب الفجر"، بُعيد حادث نيس المؤسف.
وغنيٌّ عن التعريف أنَّ أول ظهور لمصطلحات كـ"الإسلام الجهادي" و"الإسلام السياسي" كان في مراكز الدراسات الغربية والأمريكية بشكل خاص، والتي تمَّ توظيفها بشكل مدروس خلال الحرب الباردة ضد الاتحاد السوفييتي خاصة في أفغانستان؛ حيث تم تجنيد الشباب العربي المسلم للقتال ضمن مفهوم "الجهاد" المشبوه، في معركة لا ناقة لهم فيها ولا جمل، وما تلا ذلك من ظهور تنظيم "القاعدة" الذي عُرف فيما بعد بارتباطه الوثيق مع المخابرات المركزية الأمريكية، في "لعبة رخيصة" تمَّ الدفع بالإسلام فيها ليكون في مواجهة الحداثة والحضارة.. وهو ترويج بلا شك يُسيء للإسلام؛ كونه دينا حضاريا منفتحا على الآخر طوال قرون من العطاء الإنساني.
إنَّ خطاب الكراهية الغربي يرتبط كذلك بضرورة الحصول على النفط بأرخص الأسعار، ويمكن تتبع ذلك في أطروحات كيسنجر وخطابات دونالد ترامب، إلى جانب استنزاف موارد وثروات الشعوب في صفقات أسلحة مشبوهة تنعش الغرب وتفقر الشرق، وهو ما تجسَّد -على سبيل المثال- في غزو العراق بتداعياته المقيتة، التي خلَّفت لنا "داعش" أسطورة التطرف والإرهاب، ضمن دولة تُقطِّع أوصالها الميليشيات والعصابات والطائفية والفساد الذي يحدق بها من حدب وصوب.
كما يُمكن تتبع ذلك أيضًا، وبشكل أكثر وضوحا، في نظريات صاموئيل هنتنجتون المعروفة بـ"صراع الحضارات"، وأطروحات المستشرق بيرنارد لويس الداعية إلى "سايكس بيكو 2" وخرائط تقسيم العالم العربي، وتحذيراته من المسلمين وتزايد أعدادهم في أوروبا، ونظرية "الإسلاموفوبيا" التي يعتمد عليها اليمين الأصولي في أوروبا بشكل متزايد.
... إنَّ مناهضة خطاب الكراهية والتطرُّف باتت مسألة تفرض نفسها على الجميع، خصوصا مع تزايد واتساع نطاق هذا الخطاب في أشكاله وسياسة الإقصاء في العديد من مناطق العالم كمسعى يُهدِّد السلام العالمي ويؤكد أنَّ هناك قصورا واضحا في الفكر والتصور والجهود والآليات والتشريعات اللازمة للتعامل مع هذا التطور الخطير؛ وبما يتطلب الحذر من غواية هذا الخطاب العدائي، خاصة لدى فئة الشباب العربي المتحمِّس للدفاع عن تراثه وماضيه، دون أن يُدرك قذارة الفخ الذي نُصب والتي تكمُن في تشويه صورة الإسلام الحضاري. فالتمادي في المسار الحالي، سيقود لا محالة إلى السقوط في الفخ المرسوم بدقة؛ لذا يتوجب اليقظة لتصحيح المسار نحو مشروع البناء الحضاري وقيمه الأصيلة قبل فوات الأوان!