هل يتصدَّع الغرب الرأسمالي ويتفكك؟ (2-2)

 

 

عبدالله العليان

في مقالي، الأسبوع الماضي، تحدَّثتُ عن سُنن التاريخ في صعود وسقوط الفلسفات والدول، أو تراجعها عن مسارها السابق، وهذه من السنن الطبيعية للبشر والحياة، إن لم يتم التجديد والمراجعة، وهناك كما يروى أن حديثا للنبي (ص) يتحدث عن أهمية التجديد في أمر الدين وقيمه، غير القطعية أو الفكر الإسلامي عموماً، ونص الحديث كما ورد: "إنَّ الله يبعث في كل مائة عام، من يجدد للأمة أمر دينها"، وهذا يُبرز أهمية التجديد والمراجعة لكل ما يأتي من أفكار وترسبات مع الزمن، ودخلت في الدين من تفسيرات ومقولات ليست هى في أصل الدين نفسه. والإشكالية أنَّ بعض الفلاسفة والمفكرين اعتقدوا أنَّ الفكر البشري يستطيع أن ينجز لنفسه فلسفات تكون "الخلاص النهائي" للبشرية، ولا فكر آخر يحل بعدها!

ونتذكر قبل عقد ونصف العقد، أنَّ البروفيسور الياباني-الأمريكي -فرانسيس فوكوياما، قال في أطروحته الشهيرة "نهاية التاريخ"، والتي صدرت بعد ذلك في كتاب بهذا الاسم: أن الديمقراطية الرأسمالية هي النموذج النهائي للتطور البشري الإيديولوجي للإنسانية؛ وبالتالي فهي تمثل نهاية التاريخ، فإنه لم يكن يدرك أن هذا الطرح الأيديولوجي أيضا لم ينطلق من رؤى واستقراءات عميقة في التاريخ والصيغ والنماذج البشرية، وأنه ربما سيفاجأ بما حدث للنظام المالي الرأسمالي في الولايات المتحدة الذي اعتبره نهاية النهايات لكل الفلسفات والأفكار الإنسانية، وأصبحت الاقتصاديات العالمية تعيش زوابعه السلبية وأثرها على الأمم في عيشها واستقرارها، آخرها الأزمة المالية التي عصفت بالغرب منذ عدة سنوات وتداعياتها المقبلة...إلخ، لكنه بعد سنوات تراجع هذا القول الذي كان طرحاً عاطفيا، وزهواً أو افتخارا بسقوط الاتحاد السوفيتي (آنذاك)، مما جعله يقول إنَّ التاريخ سيتوقف عند الديمقراطية-الليبرالية، فقال في مقالة له: "في الواقع، فإن النمو الاقتصادي وحده لن يضمن الاستقرار، ولكن هناك أسباب وجيهة للاعتقاد بأننا دأبنا على المغالاة في تقدير المخاطر التي تتهدد الاستقرار منذ الحادي عشر من سبتمبر، وأن ردة فعلنا هذه والمبالغة فيها هي التي أوجدت الكثير من المخاطر الخاصة. وخلال فترة هجمات 11 سبتمبر ربما لم يكن هناك أكثر من بضع عشرات من الناس في العالم لديهم الدوافع والوسائل الممكنة للتسبب في إحداث كارثة تلحق الأذى بالولايات المتحدة الأمريكية، لكن وبمجرد أن ركز جهاز أمننا القومي القوي على هذه المشكلة، تلاشت إمكانية وقوع مثل هذه الهجمات بصورة دراماتيكية. ولعل قرارنا بغزو العراق قد أوجد مشكلة جديدة تماماً لأنفسنا حيث أوجدنا أرضاً خصبة للإرهاب وغيرنا من ميزان القوى في المنطقة لصالح إيران".

والواقع أنَّ فوكوياما لم يعد ينظر تلك النظرة التفاؤلية تجاه الديمقراطية الليبرالية التي بشر بتفوقها على كل الفلسفات والأيديولوجيات وهيمنتها على كل العالم؛ لأنَّ الأوضاع التي تلت أطروحته في "نهاية التاريخ" أصبحتْ بلا جدوى، وفكرة وهمية غير واقعية ربما أقرب إلى الأيديولوجيات التي ظهرت في القرنين الماضيين مثلها مثل كل الأيديولوجيات التي سبقتها وأصبحت في متحف التاريخ.

قد يكون جانب الحريات والانفتاح السياسي والإعلامي في الغرب هو الذي جعل النظرية الليبرالية تبقى حتى الآن متماسكة بعكس الأيديولوجية الماركسية التي تهاوت بشكل غريب وغير متوقع لأن الاستبداد والقمع والإقصاء عجل بسقوطها سريعاً بتلك الصورة المزرية. الآن، ما يجري في العالم، خاصة في الغرب، أن الكثير من الفلسفات والنظريات، لا يمكن أن تبقى طويلا، أو تكون الخلاص النهائي للإنسانية؛ فالغرب يعاني من ارتباك في منظومته السياسية والفكرية، وهذا طبيعي، بعد عقدين من الانطلاق والتقدم، وخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، تبرز أن هناك شيئا غير ما غير مرئي، ليس مُتماسكاً بالصورة التي نراها في الظاهر، وهذا ما يراه البعض مقدمات للتغيير في الكثير من الرؤى التي استقر عليها الفكر الليبرالي الرأسمالي، لكن من الصعب التنبؤ بما يكون عليه الغرب في العقود الأربعة المقبلة.