علي بن كفيتان بيت سعيد
ذلك الصباح لم يكن عادياً لقد رجع أبي من مناوبته العسكرية في مساء اليوم الماضي وأخذني على جنب وحدثني عن أشياء خارج قاموس حياتي، إنّها المدرسة وقال لي يجب أن تدرس وتتعلم القراءة والكتابة ولم أكن أفقه ما يتحدَّث عنه، كنت حينها لم أبلغ السادسة من عمري وفي آخر الحديث سألته عن ماهية المدرسة فشرح لي أشياء لم أفهمها من ضمنها أنك سيُصبح لديك قلم ودفتر وستقرأ القرآن الكريم، كل هذا لم يقنعني بأهمية ما يرمي له أبي، فقال لي يا بني أنا عندما ذهبت في مطلع الستينيات إلى الخليج كنت غير متعلم فاضطرني الأمر لكي أكون عاملاً بأجر زهيد بينما من هم متعلمون عملوا في مكاتب وأجورهم عالية ولا أريد لهذه التجربة أن تستمر معك هنا فهمت بعض الشيء أنّ المتعلم يجد وظيفة أفضل وراتباً أعلى من الأمي مما يعني مرتبة جيدة في الدنيا كما بإمكانه قراءة القرآن كلام الله وبالتالي فهم الدين والدخول للجنة، وفي آخر الحديث قال أبي مازحًا كما أنك ستتخلص من رعي العجول المزعجة ولم يكن يعلم بأنّ هذه هي التي دفعتني أكثر لأُجرب الذهاب للمدرسة وقبل مغادرته قال لي اترك هذا سراً بيننا وإذا وافقت يجب أن تنتظرني غدًا صباحًا على قمة الهضبة بعيدًا عن البيت.
أمي كانت تسترق السمع من بعيد وعندما تفرقنا أنا وأبي أتت مسرعة وسألتني عما كان يدور بيننا حاولت أن أكتم السر لكنني لم استطع أمام إلحاحها فأنا لم اعتد أن أخفي عنها شيئاً باستثناء الموعد الذي ضربته مع والدي على الهضبة حال ما وافقت للذهاب للمدرسة في هذه اللحظات تغيَّر وجه أمي وترقرقت الدموع في عينيها وبكت وهي تحضنني وقالت إذا ذهبت إلى هناك ستموت ألم تعلم بأنّ خالك الذي أحببته قد فارقنا إلى الأبد وقالت بحرقة لا أُريد أن أخسرك أنت الآخر، يجب أن ترفض الذهاب للمدرسة وفي تلك الأثناء أنضمت جدتي إلينا ونحن في هذا الجو الكئيب وأعلمتها أمي بالأمر فانضم صوتها لصوت أمي تحذراني من خطورة الموقف، فالحرب تستعر والأمور لم تستتب بعد وبعد عدة ساعات من المحاضرات ذهبت لأحضر العجول من المرعى واعدًا أمي وجدتي بعدم الاستجابة لطلب أبي وفي الطريق للمرعى كنت أسأل نفسي كم هو الأمر خطير ولكن لماذا يُريد أبي أن يدفعني لهذا الأمر واحترت حتى دخل الظلام وأنا لم أفكر في العجول التي رجعت لوحدها بينما سمعت صوت جدتي تنادي عليَّ من بعيد أن العجول رجعت ويجب أن تعود وقفلت راجعًا أجر خطواتي فالموعد على الهضبة غدا إذا ما قررت الذهاب للمدرسة ولكن أمي وجدتي من شدة الخوف عليَّ رسمتا صورة مأساوية للمشهد.
جنَّ الليل الحاسم وأبي أتى بعد العشاء وكانت تنتظره محاكمة صعبة لقد اتفقتا أمي وجدتي على إقناع أبي بأهمية عدم ذهابي للمدرسة فكان الحديث في بدايته هادئاً ومبنياً على الحقائق بأن الحرب مستعرة ولا يمكن الدفع بالولد إلى ساحة المعارك لكي يموت وخاصة أن أبي ليس لديه إلا أنا وأخوين آخرين أحدهما رضيع وأمام إصرار والدي تعالت أصوات أمي وجدتي التي هددت بالذهاب إلى ابنها الآخر والزعل على أبي إذا ما أقدم على هذا الأمر وفي منتصف الليل قال أبي بهدوئه المعتاد الأمر يرجع لعلي إذا كان يُريد سآخذه للمدرسة وإن رفض فسيظل في البيت هنا تنفست جدتي الصعداء لأنّها قد أخذت على موثقًا في صباح ذلك اليوم وكانت متأكدة بأنني سأرفض العرض وما كان يبعث على الطمأنينة بأن إجازة مناوبة أبي تنتهي بعد عدة أيام مما يتيح الفرصة لإقناعي قبل العودة للمعسكر.
في تلك الليلة لم تغفو عيناي وكنت اتقلب طوال الليل؛ إنّه قرار مصيري وفي الصباح قمنا كالعادة مبكرين لصلاة الفجر ومن ثم القيام بالمهام اليومية كإطعام المواشي وحلبها حتى هذه اللحظة لم أقرر بعد ولكن أبي ضرب معي موعداً في ضحى ذلك اليوم على الهضبة بعد أن يذهب ويسقي الأبقار في عين الماء ويعود ليأخذني للمدرسة ذهبت مع عجولي كالمعتاد وهنا قلت في نفسي أبي لم يخذلني قط وكم كان يعجبني بقامته الفارعة وبنيته الجسمانية القوية وشعره المتدلي على كتفية واضعاً بندقية الأفن على كتفه الأيمن، كان بطلاً أو كملاك من السماء فأبي رجل دين مُطيع لوالدته لا يكثر من الكلام وكمجتمع ذكوري فقد قررت الانحياز لقرار والدي.
تركت العجول إلى غير رجعة وانتظرت أبي على الرابية لم تكن لدي ملابس غير ما هو على جسمي النحيل ولم أكن أعرف ما هي المدرسة ولكن ثقتي بأبي دفعتني للإقدام على التعليم في وقت كانت فيه الظروف تعصف بالمنطقة حيث كان الجهل يسود المكان والأمراض منتشرة والجوع لا زال يعوي في البطون الخاوية إلا من رشفات الحليب الطازج الذي كنّا نتريقه كل صباح وكنّا نسمع يومياً أصوات المدافع تدوي في أنحاء المكان وأزيز الطائرات العمودية يشق صمت الريف البكر وكم كان يؤلمنا فقداننا لعزيز هنا وهناك، إنها حرب التحرير من الجهل والجوع والمرض والأفكار المشبوهة التي سادت في تلك الحقبة من الزمن.
حفظ الله عمان وأدام على جلالة السلطان نعمة الصحة والعافية..