الجانب الآخر من الطاولة

معاوية الرواحي

تناولت في مقالي السابق بجريدة الرؤية [من كسر الطاولة؟] تحليلاً من الداخل عن الحوار الثقافي مع المؤسسة الرسمية، وتبعات خروج المُثقف من العمل الثقافي إلى العمل السياسي، وأثر ذلك على المبنى الثقافي وعلى زملائه من الكُتاب والأدباء الذين يريدون ويقررون قرارا أصيلاً البعد عن العمل السياسي والاكتفاء بالعمل الثقافي. بعد أربع سنين كاملة من الشد والجذب بين الوسط الثقافي وبين الكيان الرسمي يمكننا أن نقول إننا دخلنا في حالة من الخسارات العامة التي يتكبدها الطرفان بسبب العنادِ والنقمة والرغبة في العودة إلى وضع سابق لن يعود.

لا يُمكننا أن نقول إنّ المشكلة نابعة [فقط] من جهة المثقف العُماني، نعم لقد قام المثقف العُماني بقيادة خطاب ثقافي مخاتل، قام بإقحام اللعب السياسية في المبنى الثقافي وأدى ذلك إلى تحطيم المبنى الثقافي، وبعد أن حدث ذلك ماذا فعل المُثقف العُماني [المتسيس]؟؟ قام باللجوء إلى مبانٍ أخرى مدنية أيضًا، وما يزال يلعب ألعابه السياسية، والمحزن في هذا الموضوع أنّ المثقف المُتسيس يعلم جيداً أنّه [يلعب مع نظام دولة] ولذلك يجيد حماية نفسه جيدًا، ويستخدم مريديه وأتباعه كدروع بشرية لممارسة خطاباته السياسة ومواقفه السياسة المخاتلة مع المجتمع والدولة.

لذلك عندما جاءت هذه الحالة العقابية العامة من قبل الكيان الرسمي، لم تعاقب من كان فعلاً في حالة [عمل سياسي كامل الشكل والمضمون]، لأنّه كان بعيدا عن الشُبهات، وبالتالي دخل في السجون المثقفون العمانيون، معظمهم ممن لا نشاط سياسي واضح لهم، وإنما هم [نشطاء] في حقوق الإنسان، وشتان بين الناشط السياسي والناشط في حقوق الإنسان. وهنا لا أشير بأيّ شكل من الأشكال إلى تأييدي [للعقاب] ولكنني أسرد أحداثاً تاريخية لا أكثر.

هل المثقفون العُمانيون بالضعف الذي يشيعه المثقفون عن أنفسهم؟ نعم هم الآن أضعف بكثير مما كان عليه الحال في السنوات الأخيرة التي شهدت الحوار الوطني العام، الوقت الذي كان فيه المثقف مثقفاً حقيقيًا ولم يكن مثقفًا كرتونياً كما أصبح البعض لاحقًا. ولكن حتى في هذا الوقت الحرج والصعب هل المثقف العُماني ضعيف فعلا؟

لو تتبعنا بشكل لصيق آثار الكتابات التي ينشرها المثقف العُماني الكسير لوجدنا أن المثقف العُماني يعيش في أفضل وأقوى حالاته فنياً. لقد ساهم خروج المثقف العُماني عن عباءة الحكومة، وعن جدران المبنى الثقافي في إيجاد لغة تعبير وتفكير ثقافية جديدة غير معتادة في الوسط الثقافي بعُمان، ولأن الكيان الرسمي ارتكب الخطأ الأكبر المُعتاد للكيانات الرسمية، طرد المثقف من الطاولة ودفعه للذهاب للساحة، وجد المثقف في الساحة هواء الحرية ومداها الواسع مما غيَّر التركيبة النفسية والعقلية للكاتب العُماني، ومما جعله أكثر صدقاً. وهذا الذي صنع ظاهرة الكتابة العمانية الحالية وأعاد العافية إلى روح الكتابة التي لا تموت في أيّ دولة مهما كانت الظروف.

وعلى الجانب الآخر كان الكاتب المحكوم بإملاءات الكيان الرسمي يغرق في نوع جديد من الخطابات التي لم تعد تنطلي على الشارع العُماني، ولذلك فقد المثقف الرسمي العُماني تلك [الهالة] التي كانت تُحيط به من قبل، كان المثقف الرسمي العُماني [مصدر معلومات موثوق] أو كما يقولون في بعض الجرائد والجهات الإعلامية [حدثنا مصدر مسؤول] هذا المصدر [المسؤول] بات يمرر البروباجاندا الحكومية، والشارع العُماني والجيل الجديد المنفتح على الحضارة وعلى تجربة الشعوب الأخرى أصبح [يعرف] كاتب الكيان الرسمي [من رائحة المقال] ولذلك وعلى الرغم من أنّ الكتاب الرسميين لم يتغير خطابهم، إلا أنّ [تلقيهم] أصبح يؤول إلى الصفر، ولم يعد الأمر بصورته تلك ينطلي على القارئ العادي وعلى الإنسان المنتمي إلى المجموع العام.

وعندما اكتشف الكاتب العُماني أنّ تلك التوترات مع الكيان الرسمي لم تكن خسارات كلية، ارتفع رصيده الشعبي ارتفاعًا كبيرًا، وعندما وجد نفسه يكتب دون [حسابات] جانبية، وجد الكاتب العُماني نفسه في حالة جديدة من حالات [الصدق] ولا سيما الكُتاب الذين اضطروا إلى دخول مواجهة مع الكيان الرسمي والذين تمّ الهجوم عليهم اجتماعياً وسياسيًا بعض الشيء فذهبوا أبعد من الآخرين في المُغامرة، على الرغم من كل تلك الخسارات، كانت تلك الحالة من [المصداقية] الشعبية، وحالة الدعم المعنوي التي يجدها من الناس تعويضات معنوية لخساراته المادية والوظيفية والإنسانية، لذلك نجد أن بعض الكتاب العمانيين تجاوز كلياً تلك النكسات، ويمارس الكتابة الآن محاذرا كل الحذر أن يقع في المخاتلة مرة أخرى، بينما الكتاب الذين يمارسون ذلك يكتبون وينفخون في قربة مقطوعة، وحتى لو قالوا كلمة [حق] فإنّ الناس ستتردد تجاه تصديقهم تلقائيًا.

لقد باتت مصداقية المثقف الرسمي العماني الآن محل شك، والشواهد متعددة، والسؤال الذي يطرح نفسه بقوة: من السبب في ذلك؟؟

الخطأ الأكبر كان سببه طريقة التعامل مع الكاتب في السنوات الأخيرة. تسببت الحملة ضد الكتاب والأدباء العُمانيين في إيجاد حالة [فصام] حدية بين نوعين من الكتابات، فالكاتب الذي يكتب ولو كلمة جيدة واحدة عن الحكومة أصبح تلقائيا [مثقفا رسميا] والصورة النمطية عن المثقف الرسمي أنّه إنساناً يبرر للحكومة أي شيء تفعله، يتحدث عن عودة أسعار النفط، وعن استقرار الأحوال، وأنه [كصورة نمطية] بدعوى تهدئة مخاوف المواطنين. وغني عن الذكر أنّ هذه الصورة ليست صحيحة كلياً ولا يمكنها أن تكون صحيحة على المطلق، ولكنني هنا أمثّل للحالة الحدية بمثال حدي فليغفر لي القارئ الكريم.

من الجانب الآخر، اكتسب الخطاب [الناقد] للحكومة مصداقية كبيرة، وأصبح أي كاتب يختلف مع الرأي الحكومي مناضلاً جديدا يضاف إلى قائمة المناضلين في النت غالباً. وأصبحت لدينا ثقافة [النقض] لا ثقافة [النقد]، وبالتالي فإنّ أي كاتب في هذا الوقت أصبح حذراً للغاية من أن يقول [كلمة حق] في شيء تفعله الحكومة مهما فعلت شيئًا جميلاً، والسبب في ذلك، أن الحكومة ليست مُنصفة في التعامل مع الكتاب، والسبب الثاني أن المجموع العام أصبح يشك في أي مثقف يمشي في فلك الحكومة، فكما ترى الآن وتقارن بين الخطاب [أ] الحكومي، والخطاب [ب] الشعبي/الثقافي، ستجد بوضوح رغبة متنامية في [نقض] كل الكلام الحكومي بسبب المعاناة التي يعانيها الإنسان العُماني بسبب ظروفه الحياتية والاقتصادية.

إنّ أيّ طرف يحاول أن يصنع خطابا ثقافيا مزيفا فإن مصير ذلك الفشل. الثقافة قائمة على الحب والصدق والجمال والإنسان العُماني واعٍ تمامًا لأية محاولة من قبل أي طرف يُزيف الكلام عنه ويضع الأفكار نيابة عنه. الثقافة شيء يقوم به المثقفون في عمان منذ أربعين سنة، وقد تحملوا تبعات الكتابة ووصل بهم الأمر إلى دفع الثمن من أعمارهم في السجون، ومن المُحزن للغاية أن ترى استمرار الكيان الرسمي في إنكار هذه الحقيقة البديهية ولا سيما وأن الحكومة في موقف صعب بسبب هذا الخطأ من قبل بعض الجهات والمؤسسات، آن الأوان للعودة لطاولة الحوار، وآن الأوان لإنصاف الخصوم والأصدقاء. الخطاب الثقافي المُتزن مهم ويصب في مصلحة الوطن، وهي الغاية الأسمى والهدف الأعلى الذي يجب أن يضعه الجميع رأي العين، عدا ذلك فإنّ الأمر سوف يستمر على هيئة فريقين من الكُتاب الأول يكتب حتى يوم القيامة ولن يصدقه أحد، والثاني مسموح له ــ شعبيا ــ أن [ينقض] فقط، دون أن يتأمل أي شيء جميل في الوطن، وكلنا نريد الحفاظ على الاستقرار الاجتماعي وحماية الوطن.

تعليق عبر الفيس بوك